أمس الأول أعطى وزير التجهيز والنقل إشارة بداية استغلال طريق كيفه ـ بومديد بولاية لعصابه بعد اكتمال الأشغال فيه، وبالأمس وصل الطريق المعبد أيضا إلى مقاطعة تامشكط بولاية الحوض الغربي، كطرق غيرها وصلت إلى مقاطعات ومراكز إدارية أخرى، وشقت مئات القرى والتجمعات خلال العشرية الماضية كالعاصمة المنجمية ازويرات، ومقاطعات ومراكز شوم، وأوجفت، والرشيد، وانوامغار، وبنشاب، وكرمسين، والمذرذرة، واركيز، وباركيول، ومال، وامبوت، ومقامه، وكنكوصه، وباسكنو، وآمرج، وجيكني، وفصاله. وكتلك المقاطعات التي أعيد بناء طرقها كمقاطعات روصو، وبوتلميت، وآكجوجت، وكوبني، والطينطان. وتلك التي يجري بناؤها أو إعادة بنائها باتجاه مقاطعات ألاك، وامبيكت لحواش. بالإضافة إلى طريق الشمال جنوب المنطلق من مقاطعة تجكجه مرورا بمركز القدية الإداري بولاية تكانت ثم مقاطعات كيفه وبومديد وكنكوصه بولاية لعصابه ثم مركز لعبلي الإداري ومقاطعة غابو بولاية كيديماغا.
وهي المدن والمناطق التي كان من المفترض أن يكون تم ربطها خلال خوالي العقود من عمر الدولة لنتحدث اليوم عن الطرق السريعة والجسور، لكن ذلك لم يحصل للأسف، وبإمكانك عمل وإنجاز ما لم يتم إنجازه خلال عقود في عقد واحد ويكون ذلك استغلالا جيدا للوقت والموارد، لكنه لن يُعوض ما ضاع من وقت وموارد خلال تلك العقود لأن ما ضاع منها ضاع، لتصبح كمن يعمل في الوقت بدل الطائع حتى وأنت منهمكا في عمل ما لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه من مقومات التنمية والآخرون يحسبون عليك ما ضيعه غيرك من وقت وفرص!
وبسبب تركيز الدولة خلال هذه العشرية على الربط الطرقي بين مناطق البلاد، و كردة فعل تبخيسية لما هو حيوي وملموس لكن لابد من التقليل من شأنه، كان المناوئون يقولون إن الطرق ليست كل شيء، وفعلا الطرق ليست كل شيء ولكنها جزء أساسي من ذلك الشيء، فنحن إما أن ننطلق من مقومات التنمية وأسسها، وهنا تأتي المواصلات والنقل والتبادلات كمرتكز لذلك ومحرك له، أو ننطلق من مطالب وتطلعات السكان فإن فك العزلة ظل يأتي دوما على رأس تلك المطالب وفي كل المناسبات، وواضح للرائي التغير الملحوظ في طبيعة عيش وحياة سكان المناطق التي وصلتها الطرق وعلى جميع مستويات العيش والحياة اقتصاديا واجتماعيا..
حدثني أحد المغتربين الموريتانيين عن لقاء جمعه بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز على هامش أحد الملتقيات التي كان يتم تنظيمها للخبرات الموريتانية المهاجرة هنا في نواكشوط، وأنه حدث الرئيس خلال هذا اللقاء عن مواصفات الطرق المُنجزة في بلادنا، وأنه كان يتمنى أن تكون كتلك التي يراها في العالم فسيحة وسريعة ومتعددة الإتجاهات.. وبعد أن انتهيت من كلامي، يقول، رد الرئيس نحن أيضا مثلك رأينا من تلك الطرق ربما أكثر مما رأيته أنت منها بحكم زياراتنا لبلدان عديدة متقدمة أو نامية أو فقيرة، وتمنينا مثلك لو كان بإمكاننا تجسيد كل ما رأيناه من مظاهر تقدم في بلدنا، لكن التمنيات والطموحات شيء، والواقع والإمكانات شيء آخر..
فالواقع أننا وصلنا إلى الحكم في بلد مترامي الأطراف قاس الطبيعة، يتوزع سكانه بشكل عشوائي على مساحته الشاسعة، والكثير من مدنه وقراه ومناطقه الإنتاجية مازال معزولا خلف جبال وعرة أو رمال كثيفة أو أودية عميقة أو سهول ممتدة، وأمام إلحاح الحاجة لربط هذه المناطق، وفي ظل محدودية إمكاناتنا، وكون بناء الطرق يُعد من الإنشاءات المكلفة التي لا تكون موارد بلد كبلدنا قادرة على تحمل تكاليفه بشكل كامل ولا بد له من الإقتراض الخارجي مع أننا، يقول الرئيس، تمكنا من إنجاز طرق عديدة وإعادة تأهيل طرق أخرى بما يقارب ال 1000 كيلومتر على نفقة الدولة، وهو ما لم يحصل في الماضي بسبب ضعف تعبئة الموارد الداخلية وتسرب المعبإ منها إلى ما لا يبقى له أثر على الأرض غالبا، فإننا من حيث مواصفات هذه الطرق كنا أمام خيارين :
فإما أن ننفق كل ما تمكنا من تعبئته من موارد ذاتية أو قروض خارجية في محور طرقي واحد أو إثنين بالمواصفات التي نتمناها وتتمناها انت وتبقى المناطق الأخرى في عزلتها ومعاناتها، أو نُوزع هذه الموارد على أكبر قدر من المناطق في صورة طرق لسنا بالضرورة راضون عنها تماما وليست هي مبلغ طموحاتنا، لكنها في النهاية كانت على قدر مقبول من حيث المواصفات، ونظرتنا لها أنها ستُسهل الحياة في هذه المناطق وتجتاز بها مرحلة ( اتلاحكّها ابشي ) بعبارة الرئيس.. خصوصا وأن الطرق ذات ارتباط وثيق بخدمات أساسية أخرى كالصحة والتعليم وتسويق الإنتاج بل والأمن أيضا.. وفي المتناول، يقول الرئيس، في مراحل أخرى وبالحصول على موارد وإمكانات جديدة إعادة بناء هذه الطرق بمواصفات أفضل، وليت إمكاناتنا، يقول، كانت محدودة وتُقابلها الحاجة الماسة إلى ربط المناطق فقط، بل كانت وهي المحدودة أصلا يُقابلها أيضا النقص الحاد والغياب التام أحيانا لبقية أساسيات الحياة على امتداد أرض الوطن من ماء شروب وكهرباء وصحة وتعليم..!
كنا كذلك وأثناء تخطيط وتعبئة الموارد لبناء هذه الطرق، يقول الرئيس، أمام خيارين أيضا، إما أن نُسند بناء كل هذه الطرق لشركات أجنبية ربما تكون ذات خبرة وقدرات أفضل ليُشكل ذلك استنزافا للموارد التي عبأناها فتخرج من دورتنا الإقتصدية، أو نعمل على خلق وتشجيع وإعادة تفعيل مؤسسات وطنية للأشغال عمومية وخصوصية قد تكون في البداية تنقصها الخبرة والإمكانات، لكنها لن تكتسب تلك الخبرة إلا بولوجها سوق العمل ووجودها على أرض الميدان، فأخترنا الخيار الأخير للإبقاء على ما أمكن الإبقاء عليه من موارد بناء هذه الطرق داخل دورتنا الإقتصادية، وفي نفس الوقت خلق مؤسسات أشغال وطنية للمستقبل تكتسب الخبرات وتستغل ما تحصل عليه من موارد في اقتناء الآليات والأجهزة والمعدات، وهو ما قمنا به أيضا من خلال بعث الروح في الهندسة العسكرية عن طريق تكليفها ببناء محاور طرقية ومنشآت عمومية اكتسبت من خلالها خبرات وحصلت منها، هي الأخرى، على موارد اقتنت بها آليات وأجهزة ومعدات، وأصبحت اليوم قادرة على تنفيذ المزيد مما يُسند إليها تنفيذه من أشغال، وكل ذلك في سبيل استقلالنا ذاتيا واعتمادنا على أيادينا وقدراتنا الفنية البحتة.