في الطرف المدني، وحجم الضرر، ورشوة المشتبه فيهم!
ب) حول حجم الضرر المزعوم وبينته.
كنا قد توقفنا في الحلقة الماضية عند حصر ونقاش البينة التي يدلي بها الطرف المدني المنتظر على الضرر اللاحق بمن يدعي الكلام باسمه، وحصرناها في ثلاثة بنود هي:
1. عمل وتقرير اللجنة البرلمانية،
2. سرد أسماء شركات ومؤسسات وقطاعات،
3. وشهادة بعض المشتبه فيهم.
فلنلق نظرة عجلى على تلك البينة، ولو بقليل من التفصيل:
1. عمل وتقرير "لجنة التحقيق البرلمانية". إن عمل وتقرير "لجنة التحقيق البرلمانية" على علاته، وعلاتها الكثيرة؛ والذي هو المرجعية المعتمدة والمعلنة أمام الملأ للسيد النقيب والنيابة العامة معا، لا يوجد في صفحاته الـ 364 على الإطلاق شيء مما ادعاه السيد النقيب ظلما وعدوانا على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وعلى العشرية؛ فهذا التقرير لا يتحدث عن "الفساد الذي عم هذا البلد لمدة 10 سنوات وكانت نتائجه..." ولا عن أوقية واحدة أخذت بغير حق من مؤسسة عمومية أو قطاع عمومي، ولا عن رشوة؛ فضلا عن الحديث عن ضرر يقدر بـ"آلاف المليارات على أسوأ تقدير" و"أموال كثيرة مهدورة ومخزنة في بنوك أجنبية وفي أماكن أجنبية" ولا حتى عن الأوقية الرمزية. فالتقرير موجود بين أيدينا بمئاته الثلاث وأربع وستين صفحة، وخلاصته بين أيدينا بصفحاتها الواحدة والخمسين. وكلاهما خلو مما ادُّعِيَ زورا! فمن أين جاءت تقديرات حجم الضرر هذه؟ خاصة إذا علمنا أن هذا التقرير الباطل (ونكررها ونصر عليها ونوقع) لا يتحدث إلا عن "اختلالات" (وهذا التعبير هو ما صرح به السيد الوزير الأول بحق تحت قبة البرلمان، فقال: "اختلالات") ظنية، وادعاءاتِ مخالفةِ بعضِ القوانين قلما يُقدِّم عليها دليل، واقتراحات فضولية بتعديل قوانين أخرى! ولقد قلنا مرارا وتكرارا إن "الاختلالات" لا تشكل فعلا يجرمه ويعاقبه القانون؛ بل تتراوح - إن ثبتت- بين الخطأ المغتفر، وسوء التسيير الذي هو من اختصاص محكمة الحسابات، والذي لا يسأل عنه بحال من الأحوال رئيس الجمهورية الذي هو غير معني به أصلا، وتمنع مساءلته، حسب نص الدستور. ومما يبدو جليا من التقرير كله، وما ورد فيه من تخبط وارتباك والتباس، أن الغرض منه هو أن يكون قد تُحُدِّث، بعد الفشل الذريع في العثور على معتبر يصلح دليلا لإدانة أي كان.. عن شيء، أي شيء، وأن يُمَثِّل مردودية مَّا لما بذل من جهد ومال ووقت في "مشروع" غير مشروع.
وفي ختام هذه النقطة، أليس من حقنا أن نتساءل عما إذا كان قد غاب عن علم السيد النقيب ما صرح به عضو ومقرر "لجنة التحقيق البرلمانية" معالي الوزير الأول الأسبق الأستاذ يحي ولد الوقف حين قال: "عندما ينظر الإعلام إلى التقديم الذي قدم به النواب عملهم يرى أنهم لم يتكلموا عن العشرية ولا عن النظام ولا عن الرئيس، تكلموا عن قطاعات معينة يريدون التحقيق فيها. ثم إن رئيس الجمهورية ليس مسؤولا بشكل مباشر عن التسيير، فالدستور واضح في أنه لا تمكن متابعته حول تسيير أي مرفق من المرافق العمومية؛ فحسب الدستور لا تمكن متابعته إلا في حالة الخيانة العظمى. فالإعلام ركز على العشرية وعلى النظام.. في حين أن ما يسعى إليه النواب هو قيام البرلمان بدوره في رقابة الحكومة سواء كانت هذه الحكومة أو الحكومات السابقة. وبالتالي يظهر لي أن الإعلام أخرج اللجنة من نسقها الحقيقي".
أفلا يسعكم، سيدي النقيب، وأنتم محام ونقيب، ما وسع عضو "لجنة التحقيق البرلمانية" ومقررها الذي عمل على هذا الملف السياسي الكيدي الفضولي؟ وكيف قبلتم - وأنتم أنتم- أن تصبحوا أكثر ملكية من الْمَلَكِ لأسباب سياسية لا علاقة لها بالحق والعدل، ولا بـ"استرجاع أموال الشعب المنهوبة" الوهمية؛ بقدر ما هي محاولة للقضاء على خصم سياسي وإضعاف وقلب نظام وطني، واصطناع جو من التضليل يتم خلاله نهب الموجود بحجة استرجاع مفقود وهمي لا بينة له ولا دليل عليه؟
بالوهم تبصر دنيا لا وجود لها ** وتختفي عنك دنيا أنت رائيها.
2. سرد أسماء شركات ومؤسسات وقطاعات (شركة سنيم، شركة سوملك، الميناء، الأراضي مدرسة الشرطة الملعب الأولمبي المدارس.. ناهيك ضخم ضخم ). ومن البديهي جدا لمن كان له قلب أو ألقى السمع، أن هذا السرد في حد ذاته لا يشكل دليلا أو بينة على وجود فساد أو ضرر، بل هو دليل قاطع وبينة بالغة على عجز المعتد به عن تقديم بينة على دعواه. ومع ذلك فسوف نسايره فنتحدث ببعض الإيجاز عن هذه المؤسسات والقطاعات التي ظُنَّ أن مجرد ذكر أسمائها دليل قاطع على " الفساد الذي عم هذه البلاد لمدة 10 سنوات وكانت نتائجه..." وسنبدأ من بداية السرد:
* شركة سنيم. لم تكن سنيم - على علاتها الكثيرة- في يوم من الأيام علما على الفساد؛ بل كانت - وما تزال- مفخرة للبلاد، وعمودا فقريا للاقتصاد الوطني وللدولة الموريتانية، ورمز كرامة موريتانيا، وأثرا من آثار تحررها الاقتصادي من نِير الاستعمار الجديد؛ حين خاض شباب موريتانيا الرائع وعمالها الأبطال وشعبها الأبي النضال سبعا عجافا من أجل تأميم "ميفرما" واسترجاع حقه في ثروته الطبيعية. وهي الآن شركة ذات رأس مال مختلط ولها مجلس إدارتها المستقل الذي يُعنَى بشؤونها؛ وإن كانت الدولة الموريتانية تمارس عليها نوعا من الوصاية عن طريق مديرها العام الذي تقترح تعيينه. وقد تعرضت في حياتها المعاصرة لثلاث هزات كادت تعصف بها وتقضي عليها:
الهزة الأولى سياسية. وكانت يوم قام نظام الفساد، العائد بقوة بعد تغيير وجهه، بسبيها وعرضها للبيع في سوق النخاسة دون أدنى مزاد؛ وكاد الأمر أن يقضى بليل! لولا أن قيض الله لها الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي رفض رفضا باتا، ومن موقع قوة أيضا، ذلك النهب الحقيقي، المتمثل في محاولة ابتلاع شركة سنيم برمتها.
أما الهزة الثانية فكانت اقتصادية. وتمثلت في انهيار سوق الحديد إلى حدود لامست 40 دولارا للطن. ورغم ما نتج عن ذلك من أعباء ثقيلة جدا على الاقتصاد الوطني وعلى الدولة، فقد تصدت حكومة الرئيس محمد ولد عبد العزيز لذلك الوضع الكارثي وعضت على سنيم بالنواجذ وظلت إلى جانبها ترعاها، إلى أن عوفيت وانتعشت سوق الحديد، ونهضت سنيم من كبوتها.
وكانت الهزة الثالثة اجتماعية بامتياز، حين حاول بعض شائمي بروق الربيع العربي الكاذب أن يجعلوا من حراك عمال سنيم العادل والعادي رأس حربتهم في زعزعة النظام وتخريب الاقتصاد وخلق أزمة اجتماعية عصية على الحل؛ الشيء الذي كاد أن ينجح لولا حكمة الطرفين وسهر الدولة الوطنية على مصالحهما.
وسنيم الآن في قمة الازدهار؛ حيث حققت في السنة المنصرمة أرباحا صافية بلغت مائة وخمسة مليارات أوقية قديمة! وقرر مجلس إدارتها منح العمال البسطاء أربعة رواتب إضافية، وثلاثة رواتب ونصف للفئة المتوسطة، وثلاثة رواتب للأطر، وخصص 650 مليون أوقية قديمة للغلاف الاجتماعي. (مدير مقر الاستغلال بازويرات المهندس الهادي ولد اعلي لموقع الريادة).
يبقى بعد هذا التقديم الذي يليق باسنم أن نعترف للمدعي (والاعتراف سيد الأدلة) بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد قام فعلا عدة مرات بـ"نهب" سنيم، ولكن لصالح عمالها ولصالح الشعب الموريتاني مالك المعدن وأغلبية رأس المال، ولصالح الدولة أيضا؛ وبإملاء وموافقة من مجلس إدارتها الذي هو السلطة العليا فيها. وكان ذلك حين فعَّل خيريتها الناشئة لتستفيد من خدماتها البلاد التي تمارس فيها الشركة نشاطها على غرار ما تفعله كبريات الشركات والمؤسسات في العالم، فمولت مشاريع مهمة نذكر من بينها على سبيل المثال:
- "المركز الاستشفائي للتخصصات" بنواذيبو بتجهيزاته الكاملة وطواقمه الطبية المتميزة وقدرته الاستيعابية البالغة 250 سريرا. وهو صرح طبي شامخ كان يأوي إليه جميع مرضى الشمال والشمال الغربي ويرتاده المرضى من كل حدب وصوب؛ إذ ذاع صيته في البلاد وشاع. وقد شهدت هذه السنة - مع كامل الأسف- صدور صك إعدامه بإنهاء خدمة الأطباء الكوبيين المهرة المخلصين القائمين عليه. وذلك رغم إرادة سكان نواذيبو الذين تظاهروا منددين بذلك القرار الجائر الخاطئ. وكتب الأستاذ أحمد ولد الشيخ - وهو من خصوم العشرية - عن "مستشفى الكوبيين" وعن قرار إعدامه ما يلي: "إن إصرار بلدية نواذيبو مدعومة من بعض الأطباء ومن لوبي وزارة الصحة، على إغلاق مستشفى الكوبيين في نواذيبو قد تكلل في النهاية بالنجاح. فهذا المستشفى العام كان يقدم العلاج الجيد والعناية والرحمة الإنسانية للمرضى دون أن يكلف ذلك دافعي الضرائب فلسا واحدا. لقد نجحت المصالح الأنانية في تحقيق هدفها في النهاية رغم الاحتجاجات الشديدة للسكان المحليين المجمعين على أنهم استطاعوا لأول مرة في حياتهم الحصول على العلاج من طرف أطباء يخصصون وقتهم 100% لأداء مهمتهم النبيلة وتمنع عليهم ممارسة الطب الخصوصي، ويظلون تحت تصرف المرضى 24 ساعة على 24 ساعة، ليس لهم هدف آخر".
- "المعهد الوطني لأمراض الكبد والفيروسات" في نواكشوط.
يتبع