"ليت الكتابة هينة" هكذا آسَى كلما أردت أن أكتب، ولم "تزرني المفردات". والمفردات في حضرة الكُتَّاب تُمحى وتكتب ثم تمحى وتكتب حتى المحاولة الأخيرة، فتُثبَّت كأنها دية قلم اغتيل قبل أن يُسْتنثَرَ، وضجر مغتالوه فنهروا أصحابه أن كفى من الاستهام.
... أنا أيضا فرد من ثلاثين كاتبا صحفيا كنا ثلاثةَ آلاف مواطن عاطل أو يزيدون، جاءوا بلا قبائل أو أنساب أو ألوان..، جاءوا سواسية يحملون الهويات الوطنية في يد، وبيد أخرى يجرون ما حصَّلوا من شهادات، لخوض غمار مسابقة وطنية ولم يزالوا يُصَفَّوْنَ حتى نَصَعَ الثلاثون و"الخمسون" و"الثمانون"...
أذكر أني كنت بين زملائي الجدد كالسائح تبهره معالم المدن الساحرة، وبهلوانيُّوها ومروضو الثعابين فيها وتنانينها البشرية...
رأيت في المشهد الأول أحد الكتاب، خلته بادي التحصيل متخلفا، إذ حَوَّل "ملحفة" صفراء قديمة إلى عمامة، وقميصا قمحيا إلى معطف يتدلى حتى كعبيه، لكنه خلَّفني حين سمعته يتحدث مع زميل آخر بلغة الإيبيريين، كأنهما مصارعي ثيران يتنهدان من شُقَّةِ المطاردة، لقد سمعت في تلك الساعة في ساحة مستوصف الجيش لغات القارات الخمس، وسمعت كل لهجاتنا الوطنية..، فأيقنت أن من أشرف على المسابقة كان صاحب شرف، وقَوَّام عدالة، ومواطنا صالحا في أيام يُغني فيها كل على عرقه و قبيلته.
عرفت ذلك في نفسي وعرفته من سحنات زملائي الجدد، لكني كنت أطرد طائرا ينعب كل حين بأن هؤلاء المنحدرين من قاعات الدرس، والذين ولجوا الوظيفة عبر المسابقات سيألمون بفعل الظلم، وسوف تأتي الأنظمة بقوم تحبهم ويخدمون الفرقاء فيها، ولا يكون ولاؤهم صِرفا للوطن. أعرف أن التلاميذ الموظفين جميعا كانوا يرون في مناماتهم ذلك الطائر النحس، فالدولة ليست مستقيمة على الحق، وليس منظورا -يومها- أن تستقيم عليه.
وأحيط بثمر المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، ولم يصلح من ثمرها إلا من خلطوا المسار بظهير من النافذين.
وأحيط بالكتاب الصحفيين فأصبحوا يطوفون في الصحون تتجنبهم تعيينات الأخمسة.. ويُحَلُّ محلهم كل من دب في دروب لا يستطيع الكتاب أن يسلكوها أبدا.
... رأيت في المشاهد الأخيرة أحد الكتاب الصحفيين يتوج أميرا بعدما أنهكه الأسر في المرائب الباردة، ورأيت كاتبا صحفيا آخر يطل من على شاشة الجزيرة، يقدم بعض إصداراته الجديدة والثرية حقا.
لقد استنكف عن الحق كل الذين مروا على الكتاب الصحفيين من وزراء، واستكبروا على العدل واجترحوا ظلما سيوفيهم الله جزاءه.
ولقد أبتر كل الوزراء الذين شانؤوا وظلموا الفتية الموظفين المكتتبين، أبتروا حتى قبل أن ينقشع نظامهم، فعزل أولهم "وأبعد" عن جناب الوزارة، و "استدعيَ" الثاني وجرد ووبخ، وعزلت ثالثتهم... وبعدا للقوم الظالمين.
لم يكن الاكتتاب النزيه إلا طوق نجاة لدول يمضي بها قادتها في اتجاه البناء، ولن يكون إلا مأمونا ومقدس النتائج في نظر مجتمعاتها، ولن تكون الوساطة والزبونية إلا هدما وظلما وخناجر مسمومة تقطع أوردة الدول من الداخل وتُنافر مكوناتها.