في مضارب بني عبس ببادية العرب ولد لشداد بن معاوية ولد أسود جعد من أم حبشية دعاه عنترة، فاستعبده على عادة أهل الجاهلية، وذاق الطفل المسكين شتى صنوف العذاب، قبل أن ينتزع القيادة والسيادة لما دق بيده باب الحرية الحمراء، فقد كان - كما تذكر كتب الأدب - فارسا شجاعا نبيلا، وشاعرا مجيدا، سمح الخليقة ماجدا عفا كريما.
وحين أغار بعض أحياء العرب على قومه فأصابوا منهم التزم الحياد، لأن صولاته وجولاته في معارك سابقة قوبلت بالتنكر والصدود، ومع تكرار الهزائم ناداه أبوه: كرّ يا عنترة!.. فرد بعبارته الخالدة: العبد لا يحسن الكرّ، إنّما يحسن الحلاب والصّرّ، فانتزع بذلك اعتراف أبيه: كرّ وأنت حرّ!.. لقد أدرك هذا العربي البدوي الجاهلي - بسلامة فطرته وسمو نفسه - أن السيادة تؤخذ غلابا، وأن الحرية شرط للريادة والنهوض، وأن التبعية رضًا بالهون، وتنكب لطريق القوة والتمكين.
ورغم وضوح هذه الحقيقة ونصاعتها فإن صانعي القرار في عالمنا الإسلامي يجهلونها أو يتجاهلونها، لذا فشلوا في رسم استراتيجيات وخطط تستجيب لطموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وغاب عنهم الشعور بالذات الوطنية والحضارية، فتشتتت الرؤى وارتبكت الأولويات.
إن التعامل الواعي مع سؤال التنمية والنهوض يقتضي الانطلاق من الذات، ودراسة الموقف والبيئة الداخلية بجميع أبعادها الثقافية والقيمية والاجتماعية، ثم رصد الإمكانات لتكون أساسا للوفاء بالاحتياجات الحقيقية، ومعالجة الاختلالات بعقلانية، بعيدا عن الاتكال والاستجداء والارتهان للغير، وهاكم هذه القصة الطريفة المعبرة: عُرفت منطقة الطائف بطقسها البارد وجمالها الخلاب، فهي رئة مكة والحجاز، تستقطب جبالها وبساتينها ومتنزهاتها أعدادا كبيرة من الزائرين، الذين اعتادوا رمي الموز للقردة على قارعة الطريق، فنشأ "جيل قردة" اتكالي، يعتمد في غذائه على الهبات والمعونات الخارجية، وشاءت الأقدار أن تتسبب السيول في انجرافات صخرية، ويتقرر إغلاق طريق "الهدا – مكة"، فتموت "قردة الموز" جوعا، بينما لم تتأثر حياة "القردة الصعاليك" في الجبال، لاكتفائها بمواردها الذاتية وضمان أمنها الغذائي!.. وسيكون مصير "جمهوريات الموز" مثل "قردة الموز" تماما، ما لم تتعامل بجد مع سؤال التنمية.
إن الاستمرار في تجاهل الذات وتبديد الثروات، واستيراد الحلول والمقاربات دون نظر للخصوصيات والإمكانات والاحتياجات، يعني مزيدا من التيه وراء سراب ووهم التنمية، مما سيرهق الأجيال القادمة بالديون الباهظة مقابل قشور لا تستجيب لواقع وشؤون وشجون الإنسان، الذي هو وسيلة التنمية وغايتها وبوصلتها.. إننا بحاجة إلى "الهجوم المحدد" على الفقر والتخلف والمرض والجهل والفساد والاتكالية والسلبية، لا أن نرتهن للأرقام والمؤشرات المضللة كالعادة، فننتشي بـ "نسب نمو" و "ناتج محلي إجمالي" لا يعكس الاختلالات البنيوية، ولا الفروق الصارخة بين الأغنياء والفقراء، و "متوسط دخل" ليس بمقدوره سد رمق الجائعين.
ومما يحسن التأكيد عليه في هذا الصدد أن "التحرر التنموي" قرار استراتيجي سيادي، يلزم اتخاذه من أعلى الهرم، وفي إطاره تصاغ جميع الخطط والبرامج بما يضمن التوزيع العادل للثروة بين الأجيال والجهات والقطاعات، أما ما نراه من مبادرات ومشاريع تطلق بين الفينة والفينة فإنها ستبقى مسكنات لحظية في أحسن الأحوال، إذ ليس بمقدورها الصمود في بيئة تفتقد للحكامة، لتغول البيروقراطية والفساد والمحسوبية.
إن شرط الحرية والسيادة يستلزم ألا نسلم عقولنا لمن يفكر عنا، ويحدد لنا خياراتنا وأولوياتنا، وأن تكون ذاتنا وخصوصيتنا مركز القرار، في إطارها نرسم خارطة المصالح والعلاقات على أساس من الاحترام والندية، فلا نهمش المتن ولا نمتن الهامش.
وحتى لا نبقى في التنظير دعونا ننظر في واقعنا لنرى عمق الأزمة بضرب أمثلة حية، تنسجم مع مفهومنا للتنمية الشاملة:
عجز الثقة
لأغراض بحثية طلبت من أحد ذوي العلاقة بقطاع الشؤون الإسلامية بيانات إحصائية حديثة عن المنظومة المحظرية، فاتضح أنه لا تتوفر غير البيانات المسحية التي مضى عليها عقد كامل، مما يقلل من اعتماديتها لعامل التقادم، وقد شعرت بالمرارة والألم حين علق: لا تزال الجهات المعنية تبحث عن تمويل لدراسة مسحية جديدة!.. فذكرني مقولة الفاروق عمر: بالله أعوذ من جلد الفاجر وعجز الثقة!..
لقد كان بمقدور الجهات المعنية توجيه عملية البحث العلمي في جامعاتها ومعاهدها لما يخدم التنمية مما ينفع الناس ويمكث في الأرض، بدل مشاريع التخرج الهزيلة، التي يغلب عليها تحقيق الأنظام العائلية، والرسائل المكررة التي تفتقر للجدة والإضافة.. ومن أيسر ذلك توزيع خريجيها في "فرق بحثية" بعدد المقاطعات، وتأطيرهم لإعداد دراسات مسحية تحليلة استشرافية، وفق متطلبات واشتراطات البحث العلمي، فتتحقق بذلك مجموعة أهداف دون موارد تذكر، ودون ارتهان لأجندات وأولويات الجهات المانحة إن وجدت.
خشية إملاق
أعلنت وزارة الصحة – غير مشكورة – عن توفير الحقنة المساعدة على تباعد الولادات مجانا في مستشفيات البلاد أخيرا، وهي الخطوة التي لاقت استهجان وانتقاد الكثيرين، لما تعكسه من اختلال في الأولويات وارتهان للإملاءات الخارجية مع خطرها وخطلها، إذ أن البشرية تصارع اليوم للحصول على لقاحات وباء كورونا، ولا وقت لإضاعته في تنظيم الحمل وتحديد النسل.
كما أن أمة لا تتجاوز أربعة ملايين نسمة - تقطن قارة مليونية تغفو في أحضان شاطئ محيط، يسري خلله تيار كناريا البارد، وتتناصى بشمالها جبال الحديد ومناجم الذهب والنحاس، وتجري في جنوبها فيضانات الأنهار والأودية وتسرح ملايين الأنعام، وفي أعماقها ثروة كربونية واعدة – غير معنية بالزيادة السكانية، ولا يليق أن تسعى لقطع نسلها تحقيقا لمطالب المنظمات الغربية والسائرين في فلكها، والتي لا تفتأ تبحث عن وسائل التمكين لفلسفة النوع، والقضاء على منظومة الأسرة التي هي أساس بنية المجتمع المسلم، وإشاعة الفاحشة وخدمة أهل الانحلال والفجور.
إن سياسات تحديد النسل تستبطن جاهلية تسيء الظن بالله رب العالمين.. تخاف العيلة وتنسى أن (الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) هو الذي (بَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)، وتعجز عن تأهيل وتوظف مواردها البشرية في صناعة الرفاه وخدمة التنمية أسوة بدول كثيرة، نذكر منها دولة الفلبين، التي وجهت طاقاتها الشابة لمعاهد التمريض المتخصصة، فسيطرت في سنوات على هذا القطاع الحيوي في مختلف دول العالم، مما جعل الزيادة السكانية عملتها الصعبة، ورافعتها الاقتصادية القوية.
بقي أن نشير إلى أن تباعد الولادات قد تقتضيه مصلحة شرعية مرعية، تقدر بقدرها ويؤخذ فيها رأي الطبيب المسلم الثقة، مع الضوابط الشرعية التي نص عليها الفقهاء، وهو ما لا يستدعي حملة معلنة مسوقة للجميع، دون سد لباب الشبهة أو نظر في المآلات.
الغلو في الغلو
ظاهرة الغلو والإفراط قديمة قدم البشرية، تماما كظاهرة التحلل والتفريط، لذا تضافرت الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة لرسم معالم الطريق، وحفظ المسلم من أن ينحرف ذات اليمين وذات الشمال، وتأهيله للخيرية والعدل والشهادة على الناس، وقد تضاعف الاهتمام بالظاهرة خلال العقود الأخيرة بفعل التأجيج والتوظيف الإعلامي والسياسي، وأضحت تهمة خالصة للإسلام والمسلمين، رغم أن الأمة – كانت ولا تزال – هي الضحية، وما ينسب لبعض أبنائها ردة فعل - في الغالب - على إرهاب الكبار المسكوت عنه، وقد كان لافتا وقوع كثير من الهيئات الرسمية والروابط العلمائية في الفخ، وتجيير جهودها وإمكاناتها لخدمة معركة "الاعتدال الأمريكي" واستراتيجياته المعلنة، واستغلالها – في مختلف تقنيات التشويه للعمل الإسلامي - من الجهات الممولة التي تصوغ المقررات والتوصيات، وتفرض الأجندات و تحدد الأولويات.
وفي هذا الإطار يدخل توزيع "كتيب الخطاب البديل لخطاب التطرف" على بعض الأئمة من طرف مشروع "كوريم"، الذي يرفع لافتة دعم الممانعة والانسجام الثقافي والاجتماعي في موريتانيا، بهدف استقرار المنطقة الساحلية الصحراوية، وقد وظف لهذا الغرض اسم هيئة العلماء واتحاد الأئمة لتمرير محتوى الكتيب، المقتصر على إثارة الغبار حول مرتكزات البعث الإسلامي المعاصر (مصدرية الوحي – مرجعية فهم القرون الخيرة قبل نشوء الفرق – حاكمية الشريعة)، وغير بعيد عن هذا السياق التأم في جامعة العيون ملتقى بعنوان (الإسلام في مواجهة التطرف العنيف)، بتنظيم وتأطير من المركز الجامعي لدراسات التطرف العنيف، وهو بلا شك اختلال في الموازين وارتهان لأولويات أجنبية، إذ أن مقتضيات الشرع والواقع تفرض مواجهة التحديات الجمة التي تعصف بالجيل، كدعوات الإلحاد والعلمنة، وطوفان الشهوات والشبهات، الذي يتدفق عبر وسائط التأثير الكثيرة، مع تقديم برامج تأسيسية تزرع أصول الإسلام والإيمان والإحسان، وتعزز القيم السمحة التي جاءت بها الشريعة الغراء، بعد ذلك يمكن أن نتفكه بالحديث عن موضوعات هامشية نستدعيها من زوايا النسيان.
وأهتبل هذه السانحة لأؤكد ضرورة وعي العلماء بتحديات الواقع، وما يصطرع فيه من أجندات ومشاريع، ليضمنوا الاستقلال ويروا كامل الصورة، فيكونون حقا موقعين عن رب العالمين، كما أن عليهم الحذر من أن تستغل منزلتهم وشهرتهم في الحرب على الإسلام، فقد حدثني الثقة أن كتابا صدر لأحد زملائه في قضايا معاصرة، برعاية إحدى الجهات الرسمية في المشرق، وبدعم من منظمة مشبوهة، وحين قرأ الكتاب وجد فيه من الانحراف والتزوير ما يستحيل صدوره عن مسلم.. فدون ملاحظاته على عجل، ليتضح أن الجهة المشبوهة زورت الكتاب، وعرضته على صاحبنا – وهو في فجوة منه - فطالعه على عجل، فاستغلوا ذلك للترويج للمحتوى المنحرف.
سلطة الأيديولوجيا
وحتى لا يبقى حديثنا منصبا على المنظومات الرسمية نستعرض جانبا من الخلل لدى بقية الفاعلين، ممن تتعلق بهم الآمال في معركة البناء والتنمية، وأسجل هنا ظاهرة متجذرة لدى النخب العلمية والثقافية والدعوية والأيديولوجية، وهي الارتهان للسجالات الخارجية، حيث لا تزال - منذ عقود – مجرد صدى لملهميها خارج الحدود في الشرق والغرب، ولم تنزل من أبراجها العاجية فتقدم مشاريع تنموية تحقق النفاذ إلى قاعدة المجتمع، رغم ارتفاع سقف المتاح والحاجة الماسة في قطاعات كثيرة، كالتعليم والتدريب والتوعية ومحو الأمية.. إن التحرر من سلطة الأيديولوجيا والتعالي على كثير من السجالات سيحرر الطاقات المعطلة، ويحقق الاستفادة الواعية من الموارد الفكرية والبشرية.. إن شهوة الكلام والإغراق في ماجريات الأحداث والتضخم السياسي، كلها سلبيات أثمرت كثيرا من الجدل وقليلا من العمل.
سطوة المانحين
لا تختلف سطوة المانحين في تأثيرها عن سلطة الأيديولوجيا، ويكفي للتدليل على عمق تأثيرها على البرامج والأولويات أن أحد الخيرين قدم تمويلا سخيا لإحدى الجمعيات، لكنه اشترط توجيهه لشراء مياه معدنية وتوزيعها على المصلين في رمضان، كما يحصل في بلده الغني، مستحضرا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة سقي الماء"، وقد خاطبته الجمعية المنفذة بأن هذا المشروع غير مناسب في افريقيا، وأن الأولى توجيه التبرع للغذاء، فلم يستوعب ذلك، وأصر على توزيع المياه المعدنية، مما سبب للجمعية حرجا كبيرا، وارتفعت مطالب الناس: نريد الطعام، فرضخ المحسن أخيرا للأمر الواقع، ومع أن التمويلات الخارجية قد لا تكون من هذا القبيل دائما، إلا أن الاعتماد على المصادر الذاتية، ووضع الاستراتيجات لتنمية المال الرحيم، وحشد الموارد المحلية يعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية.
وأخيرا..
أخي!.. مهما كان موقعك .. مسؤولا.. عالما .. باحثا أكاديميا .. مثقفا .. ناشطا حركيا .. فاعلا خيريا..
كن حرا يحسن الكر في معركة التنمية والنهوض والإصلاح، ولا تكن عبدا قدره الحلاب والصر.
وقل معي: تعس عبد الدينار .. تعس عبد الدرهم.. تعس عبد الكرسي .. تعس عبد الوظيفة .. تعس كل مرتهن لأجندات الغير .. تعس من يبيع دينه وعرضه وسيادة أمته ومصالح بلاده بعرض من الدنيا زهيد.
تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.