ولرفع هذا التحدي، فقد تضافرت مجموعة من العوامل والأحداث في تلك السنوات القليلة (1962 - 1964) تمخضت عن ميلاد حركة قومية عربية شبابية في موريتانيا. وكان من أبرز تلك العوامل والأحداث، مثالا لا حصرا: دور نقابة المعلمين العرب وجريدتها "الواقع" بقيادة نقيبها الرائد في مجال الدفاع عن اللغة والهوية العربيتين الأستاذ عبدو ولد أحمد رحمه الله، حركة الطلاب القوميين في فرنسا الذين حاصروا مؤتمر حزب الشعب الأول في انواكشوط سنة 1963 وأسمعوه صوتهم، مؤتمر رابطة الشباب الموريتاني الأخير، انتفاضة البراكنة ضد حزب الشعب، لقاء الشباب الموريتاني بثورة الجزائر وبالمهاجرين اللبنانيين في داكار، دخول الكنانة على خط الحراك العربي التحرري عن طريق زيارة وفدها الرفيع إلى موريتانيا، وتأثير بعثاتها التعليمية ومركزها الثقافي العظيم! وكان من أبرز الرواد القوميين الذين شكلوا نواة تلك الحركة أحمدو ولد عبد القادر، محمد المصطفى ولد بدر الدين، محمدو الناجي ولد محمد ولد أحمد، محمد عينينه ولد أحمد الهادي، محمد فاضل ولد الداه، المحجوب ولد بيه، أحمد ولد الوافي، الطالب جدو ولد محمد الأغظف. وقد سافر أغلب تلك الكوكبة في بعثات إلى مصر سنة 1964، ولم يبق منها في الميدان إلا الأستاذ الشاعر أحمدو ولد عبد القادر ومحمد عينينا ولد أحمد ولد الهادي وكاتب هذه الإفادة، وقد حُوِّلنا (أنا والشاعر) تباعا إلى أطار، وهناك أصدرنا جريدة "موريتانيا الفتاة". وقد تأسست في أطار أول حلقة تابعة لحركة القوميين العرب على التراب الوطني، ضمت المناضلين أجودنا ولد المحفوظ، وأحمد سالم ولد اعليه، وإزيد بيه ولد يحفظه (الشيخ إزيد بيه إمام وشيخ محظرة لگويسي الآن) وكان لها أنصار كثر، أذكر منهم على سبيل المثال: القاضي الفاضل بوبه ولد عبد الحي رحمه الله، والنائب والعمدة سيد أحمد ولد حبت، ومحمد يحي ولد أحمدو فال، ومحمد سالم ولد اكبار، وأغظفنا ولد أفلواط، واعلاتي ولد الأدهم. وكانت لها مكتبتها العربية المفتوحة للمطالعة، ولها فصل لمحو الأمية أهّل بعضهن ليصبحن معلمات وأساتذة (مريم وهند بنتا عبد الله سالم، وفاطمة بنت لخليفة).
وهذه الحلقة هي التي نظمت وقادت مظاهرات أطار في يناير 1966 التي قدمتُ باسمها وباسم الشعب ملتمسا إلى والي آدرار السيد كان التجاني رحمه الله، وكان من بين المشاركين فيها التلاميذ سدّنّ ولد يحي، ومحمد سالم ومحمد محمود (ميلود) ابنا لكحل، وفي عمر سدّنّ.
ولما تبوأنا أطار سنة 1964 كان عبق أربعة عصور متقاربة مجيدة ما يزال يملأ أرجاء تلك القلعة الوطنية الصامدة:
- عصر النهضة الحاضرة بشخوصها ورموزها، وبأسراها أيضا: دار أهل همدي، ماء العينين ولد اشبيه صاحب نشيد "هذا آخر نومنا" الجيش ولد سدوم ملحن ومغني ذلك النشيد، وملحن ومغني نشيد العروبة لاحقا، الشريف سيدي محمد ولد القاسم أحد قادة معركة مطار انواكشوط صحبة الزعيم سيدي ولد الداهي، ثم ذلك الزعيم الشنقيطي الشاعر العائد للتو من المغرب بتجارب غنية وقصائد عروبية وثورية عصماء.
- عصر المجاهد سيدي ولد مولاي الزين الذي أدركت أحد أصحابه هو محمد ولد الصفرة فحدثني في أوجفت عن مقتل كابولاني وعن أيام وطنية أخرى.
- عصر المجاهد الشيخ ماء العينين الذي أدركنا بعض أبنائه (كانت إحدى بناته ما تزال على قيد الحياة وقد زرتها في أطار) وأحفادِه (الشيخ بون انَّ ولد الشيخ الطالب اخيار) وتلامذتِه كالشيخ الأديب الشاعر والرحالة محمد ولد آبوّ الذي أقام معنا بعض الوقت في أطار!
- ثم هجرة أمير آدرار الفتى المجاهد الشاعر البطل، ومعركة وديان الخروب الحسينية!
نسأل الله الرحمة للجميع، وطول البقاء للأحياء. إنه سميع مجيب!
* * *
وأما ما كتبه السيد الفاضل محمد ولد محمد فال عن هذه الفترة، فيستوجب تقديم الملاحظات الثلاث التالية:
- أنه لم يكن للوثيقة التي أصدرتها حركة القوميين العرب وحررها الحكيم بعنوان "تحليل منطقي للنكسة..." أي دور في نشأة الحركة الوطنية الديمقراطية في موريتانيا. ولم تصلنا هي ولا صحيفة "الثورة" حسب علمي قط. والصحيفة الثورية الوحيدة التي ظلت تصل إلى موريتانيا بانتظام منذ نهاية 63 على مدى نحو عشر سنوات؛ والتي كان لها الفضل في تنظيم وتوجيه الحركة القومية الموريتانية، هي مجلة "الحرية". ولم تكن توجد علاقة تنظيمية ما بيننا وبين مركز حركة القوميين العرب؛ بل كانت كل علاقتنا بها هي مجلة الحرية ومقالات محرريها محسن إبراهيم ومحمد كشلي وبلال الحسن وغسان كنفاني، وكنا نحن نكتب فيها أيضا. ولم يكن مؤتمر تاكوماجي ناتجا عن أي توجيه من مركز الحركة؛ بل كان مبادرة منا نحن. لقد كان زملاؤنا القادمون من أكثر ارتباطا بفرع الحركة في مصر ومجلة "الطليعة" وفكر الأستاذ لطفي الخولي، بينما كنا نحن في الداخل نقرأ "الحرية" ونتأثر بمدرسة بيروت ونايف حواتمة والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
- لم تجر أية حوارات في السجن بعد أحداث 1966 بين سميدع وكوكبة من مكونات الوطن المختلفة. فسميدع - رحمه الله- لم يسجن إلا مرة واحدة ولمدة قصيرة، في معتقل انبيكة، وقد أطلق سراحه مع التلاميذ وبعض الشخصيات الأخرى. وخلال فترتي انبيكه وبو امديد لم يتح أي حوار أو نقاش بين زعماء المكونتين لبعد الشقة بينهما، ولسبب الفصل بينهما الذي فرضته ضرورات الأمن. وكانت أول بادرة تبدر من أحدهما اتجاه الآخر هي إعلان جماعة "البظان" الإضراب عن الطعام مساندة لإضراب جماعة "لكور" لما دخل يومه الثاني أو الثالث؛ والذي كان من مطالبه نقلهم من بو امديد. وقد نقلوا منه فعلا إلى العيون، وبقي البيظان في بو امديد، ومنه نقلوا إلى تجگجه. أما النقاش المتحدث عنه فقد جرى على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت بعد عودة المجموعتين إلى انواكشوط، وجمعهما في مدرسة الشرطة في لكصر بانواكشوط أواخر سنة 1966. والمرحلة الثانية سنة 67 بعد إطلاق سراحنا بمدة. وكان الحوار الثاني بيننا كنقابيين بمبادرة من الزعيم النقابي جابيرا جاغيلي؛ وهذا الحوار هو الذي وضع أسس الوحدة النقابية ضد هيمنة حزب الشعب الحاكم على العمل النقابي، ومهد الطريق سالكا أمام الوحدة الوطنية!
- ولا علاقة كذلك لحركتنا والتحول الذي عرفته بالفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز، ولا بتروتسكي، ولا بقسطنطين زريق ولا بجماعة باريس. بل كان ناتجا عن تجربتها الذاتية وأحداث سنوات 1966، 1967، 1968 وتأثرها بالحوار الدائر في المشرق بعد النكسة، وبكاسترو وتشي وكتاب ثورة في الثورة للكاتب الفرنسي رجيس دوبري وبالفيتناميين، وبانتفاضة 1968 في فرنسا؛ التي عشنا بعض أحداثها، وبجماعة تولوز أيضا.
ولعل استقلالنا التنظيمي عن حركة القوميين العرب وعدم تبعيتنا لها هما ما أشار إليه الكاتب في قوله: "يشار إلى أن انتشار الحركة السريع وتمددها الملفت على مستوى الوطن نابع من محليتها وانطلاقها من واقع الوطن الاجتماعي والثقافي والسياسي، وليس عن طريق التصورات والمقدمات الذهنية الخارجة عن حال الوطن". ثم أكده أيضا الأستاذ بدن في بداية الحلقة الثانية من مقالاته، فقال: "أما النشاط النضالي في موريتانيا فكان شأنا داخليا نقوم به نحن دون تدخل الإخوة في المشرق، وتمثل أساسا في الدفاع عن عروبة بلاد شنقيط...".