قضية الشعب الأزوادي وتطلعاته في الحرية والعدل والتميز الثقافي تطلعات مشروعة لا تستطيع فرنسا ولا وكلاؤها في المنطقة القفز عليها، مهما وفر التطرف الديني والغباء السياسي والاختراق الاستخباري من ذرائع ومبررات.
هجوم مريب :
لقد مثل الهجوم الذي شنته حركة أنصار الدين وحلفائها على "كونا" في محيط "موبتي" كبرى مدن الشرق المالي رغم وجاهته التكتيكية- من جهة ضرب قواعد القوات المالية المحتشدة للحرب وإرباك الموقف الفرنسي والإفريقي- خطأ إستراتيجيا فادحا ،حيث وفر سياقا مثاليا لانطلاق حرب عدوانية آثمة وأخرج قضية أزواد من سياقها الطبيعي السياسي الثقافي المجتمعي إلى سياق آخر يضرها أكثر مما ينفعها،وهي فرصة لرفض هذا الهجوم وإدانته بل واعتباره عملا مريبا لا يستبعد أن تكون الأجهزة الاستخبارية الأجنبية ضالعة فيه عبر استغلال بساطة وسذاجة بعض القادة الأزواديين من أجل استدراجهم خارج حدود الإقليم في هجوم عدواني يفتقد أبسط المبررات السياسية
خذلان مقصود
من وجهة نظري فإن الأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب تبقى هي المواقف السلبية والتآمرية لفرنسا ودول الإقليم التي لم تبذل جهودا جدية لإيجاد حل سياسي واقعي للأزمة القائمة ، حيث تصرفت دول الإيكواس وفق حسابات سياسية وإثنية ضيقة وهي التي هللت بالأمس القريب في الاتحاد الإفريقي لانفصال جنوب السودان عن شماله ، فيما تصرفت الجزائر وموريتانيا والمغرب وفق أجنداتها القطرية وتحالفاتها الدولية غير مبالية بآلام الأزواديين أو مخاطر تفجر الأوضاع وخروجها عن السيطرة ، أما فرنسا فقد تصرفت كقوة استعمارية تحرص على نفوذها التقليدي وتعمل على حماية الأوضاع الموروثة عن الحقبة الاستعمارية بكل مظالمها من دون الوعي بحجم التغيرات الهائلة التي جرت وتجري والتي لم تعد تقبل استمرار قواعد السيطرة والتحكم الأجنبي كما كانت.
لقد عبرت الحركات والشخصيات الأزوادية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقع عن رغبتها في حل النزاع عن طريق المفاوضات والحلول السياسية السلمية ،لكن فرنسا والإيكواس والدول العربية المجاورة لم تقدم للأزواديين أي عروض معقولة ولم تمارس أي ضغوط جدية على سلطات بامكو في اتجاه التوصل لحلول مرضية من قبيل حكم ذاتي موسع أو قيام دولة كونفدرالية أو أي عرض آخر،ولم يتم تحديد خارطة طريق واضحة المعالم للنهوض بالإقليم وإخراجه من عزلته وتخلفه التنموي والحضاري وفق جهد إقليمي ودولي يسعى لتحقيق السلام والأمن ويقضي على مسببات العنف والإرهاب والمخدرات في الساحل الصحراوي.
ابتلاء أزواد
مثل وجود الجماعات الجهادية الأجنبية بخطابها المتطرف وتصرفاتها الحمقاء عامل تشويش على قضية أزواد ذات الجذور التاريخية السابقة على وجود هذه الجماعات.
ومع هذا فقد شكل تحالف بعض الحركات الأزوادية مع الجماعات الجهادية خلال الحرب مع الجيش المالي،وما تبع ذلك من سيطرة على كبريات مدن الإقليم والحديث عن إمارة إسلامية، مؤشرات سالبة أفزعت دول الإقليم وحلفائها الغربيين،وكان على الحركات الأزوادية أن تعي مدى الخطر الذي تمثله هذه الجماعات على قضيتها وأن تعمل على إنهاء حالة التماهى معها،للفصل بين قضية الإقليم العادلة والأجندات الغامضة لهذه الجماعات،لكن هذا لا يعني أبدا الدعوة للدخول في حرب مع الجماعات الجهادية، فليست للأزواديين دولة حتى الآن حتى يكون من مسؤولياتهم أمن الإقليم وسلامة أراضيه وتأمين جيرانه .لكن الوجه الآخر لمحنة أزواد مع الجماعات الجهادية يتمثل في المواقف المريبة للعديد من دول الإقليم من هذه التنظيمات حيث باتت بعض دول الإقليم تملك عبر أجهزتها الاستخبارية نفوذا مباشرا و غير مباشر على هذه الجماعات كما هو معلوم عند حذاق الخبراء بالمنطقة.
وكان من نماذج استغلال الأجهزة لسذاجة هذه الجماعات،دفعها لاحتلال المدن الأزوادية وتصفية الحركة الوطنية ذات المشروع الاستقلالي،والحديث عن إمارة إسلامية في غير محلها ولا توقيتها وهدم الأضرحة وإقامة بعض الحدود الشرعية وفق سياقات ساذجة و إعلان التهديدات وابتزاز الجيران يمينا ويسارا.
مخاطر إستراتيجية
لقد كان من الواضح أن الخيار السياسي والدبلوماسي الذي انتهجته دول الإقليم وحلفائها الغربيين سينتهي بلا شك للحرب التي لا يخدم اندلاعها واستمرارها إلا قوى الهيمنة الغربية وحساباتها المعادية للإسلام و الساعية لإنهاك المنطقة وإشغالها بالحروب،وستمثل هذه الحرب ورطة أخلاقية كبرى حيث تقوم دول بالهجوم على شعب طالب بحقوقه في الحرية والعيش الكريم والحفاظ على تميزه الثقافي والحضاري وحقه في التنمية بعد خمسة عقود من التهميش والإقصاء وهي مطالب مشروعة كان بالإمكان تلبيتها وفق صيغ تنهي عذابات الأزواديين،وتحفظ وحدة دولة عزيزة مثل مالي،ومع هذا يبقى أخطر ما في الحرب الحالية أنها سوف تجر بقية الأطياف الأزوادية النابذة لخط الجماعات الجهادية إلى الدخول في الحرب دفاعا عن مدنها وحرماتها في وجه غزو أجنبي،أما الخطر الثاني فيتمثل في الغرور الذي سيصيب النخبة المسيطرة على مقاليد الحكم في مالي حيث ستتعامل مع المطالب الأزوادية بعنجهية بفعل الدعم الإقليمي والدولي الذي تتلقاه،وهو ما سيفتح المجال لحروب ثأر وانتقام ستضرب أسس العلاقات الدينية والتاريخية بين مكونات مسلمي المنطقة وهو ما يحقق إستراتيجية غربية ثابتة هدفها إشعال الحزام العربي الإفريقي الممتد من دارفور وحتى السنغال من أجل إدامة السيطرة والتحكم في مقدرات المنطقة ومستقبلها في الاستقلال الحضاري.