يجري حاليا الحديث في بعض الأوساط السياسية الموريتانية، وفي بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، عن حوار وشيك بين المعنيين بشؤون الدولة.
يرى بعضهم أنّ الحوار المرتقَب ينبغي أن يكون موسَّعا، بحيث لا يقتصر على حوار سياسي بين الحزب الحاكم والأحزاب الداعمة لرئيس الجمهورية-من جهة- وبين أحزاب المعارضة الديمقراطية، من جهة أخرى، ويفضّل بعضُهم مصطلح "تشاور"، على مصطلح "حوار".
وفي انتظار أن تعلن الجهات المعنية عن بعض التفاصيل المتعلقة بهذا الحوار (ومن ضمنها طبيعته، وأهم محاوره، والأطراف المشاركة فيه)، يطيب لي أن أبدي وجهة نظري في الموضوع، لعل أن يجد فيها المعنيون والمهتمون بالأمر ما يساعد على وضع تصور عامّ لما ينتظره المواطنون من أيّ حوار قادم، سياسيًّا كان أو مجتمعيًّا أو غيرَ ذلك.
بخصوص الحوار الذي يجري الحديث عنه، أشير إلى أنّ الحوار، أو النقاش، أو التشاور، ألفاظ أو مصطلحات تندرج-بصفة عامة- ضمن حقل دلاليٍّ واحد، دون التدقيق فيما بينها من عموم وخصوص.
أرى أنّ العبرة ليست بالاسم، والحوار ليس هدفا في حد ذاته؛ لأنّ الحوار(أو النقاش أو التشاور)، ينبغي أن نتوصل من خلاله إلى الاتفاق على رأي موحَّد حول القضايا المهمة، والأمور التي تخدُم الوطن والمواطن.
إنني من الذين كتبوا كثيرا عن أهمية الحوار بين الفرقاء السياسيين، وكان التركيز حينئذٍ على ضرورة الحوار بين الموالاة والمعارضة، وأظن أننا قد تجاوزنا نسبيًّا هذه المرحلة، بعد أن شاهدنا جو الانفتاح السائد في الوقت الراهن بين السلطة الحاكمة وأحزاب المعارضة الديمقراطية.
يبدو لي أن ما نحتاجه في الوقت الراهن، هو حوار (أو تشاور، أو نقاش) عام يُسمَع فيه رأي السلطة السياسية الحاكمة ورأي الموالين لها، ورأي أحزاب المعارضة، وآراء بعض المهتمين بالشأن العام، من مفكرين ومثقفين، وأساتذة ومفتشين، ومهندسين، وأطباء، وكتاب، وإعلاميين، وقضاة، ومحامين، ونقابيين، إلخ. بمعنى أنّ تحديد أطراف الحوار (أو التشاور، أو النقاش)، أمر مهم جدا.
ومن جهة أخرى، فلا بد من أهمية أخذ دروس وعِبَر من الحوارات السياسية السابقة، حتى لا نظل ندور في حلقة مفرغة، وتكون جهودنا منصبة على مجرد إجراء حوار. بينما المهم، هو ما بعد الحوار، وهل توجد إرادة سياسية لتنفيذ مخرجات الحوار.
يبدو لي أنّ جو الانفتاح السياسي الحالي، يتيح فرصة ثمينة للجهات السياسية المعنية، وللمواطنين الغُيُرِ على المصلحة العامة، تمكنهم من تقديم مقترحات، في شكل توصيات، من شأنها أن تعالج بعض القضايا العالقة المتعلقة بالمحاور الآتية:
1-الحكامة الرشيدة التي تحرص-من ضمن ما تحرص عليه-على حماية المال العام، وتحصينه من الفساد والمفسدين (ربما بالرقابة القبلية والبعدية، وبالقوانين والنصوص واللوائح اللازمة؛ فالمال السائب مُعِين على السرقة)، وتوجيه موارد الدولة إلى مشاريع/ مشروعات تخدُم التنمية الشاملة، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وضمان تكافؤ الفرص فيما يتعلق باستفادة المواطنين من خيرات الدولة وإشراكهم في عملية تنمية البلد، والتركيز على الاهتمام بالقطاعات الحيوية المحورية في عملية التنمية الشاملة. من هذه القطاعات، على سبيل المثال لا الحصر: التعليم والصحة والزراعة، والصناعة، والمعادن، والقطاعات ذات الصلة الوثيقة بالخِدمات الاجتماعية.
2-تطبيق حيثيات الدستور والقوانين والنصوص الجاري العمل بها بالسرعة المناسبة، ممّا يقتضي المزيد من الإصلاح والتقويم والدعم المادي والمعنوي لمنظومة القضاء؛ فالدولة الموريتانية (حسَب ما يصدر عن جهات متخصصة في الموضوع) لديها قوانينُ ونصوص متقدمة-مقارنة ببعض الدول المشابهة- تسمح بحل معظم المشكلات المطروحة، وما قد يلاحَظ من نقص فلعله بسبب عدم القدرة (ربما بسبب ضعف الإمكانات) على تطبيق هذه القوانين بالصيغة وفي الوقت المناسبيْن، وهذه مهمة مؤسسات الدولة، بالتنسيق والتعاون مع من يهمهم الأمر. أذكر هنا مثالا واحدا على ذلك، يتجسد في عدم التطبيق الفعلي للمادة السادسة من الدستور التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، ممّا يترتب عليه التمكين لها لتصبح لغة التعليم (في جميع أنواعه ومستوياته)، ولغة الإدارة، وسائر المرافق الحيوية للدولة. ومن الواضح أنّ عدم تفعيل هذه المادة، جعل اللغة الفرنسية تظل مهيمنةً على القطاعات الحيوية للدولة، على الرغم من مرور ستين سنة على الاستقلال عن فرنسا !
3-إصلاح المنظومة التربوية، إذْ لا يختلف اثنان على أن التعليم هو المحور الأساس لكل تنمية بشرية، وقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة في وقت مبكّر، فقامت بإعداد الدراسات ووضع البرامج الساعية إلى إصلاح التعليم وتطويره ليستجيب لحاجات ما أصبح يُعرَف بـ:" مجتمع المعرفة". ولا بد من أنْ أذكِّر هنا بضرورة التدريس باللغة العربية حتى يتمكن المتعلم (التلميذ أو الطالب) من فهم العلوم بلغة ثقافته التي اكتسبها من بيئته ومحيطه ووسطه الاجتماعي؛ فذلك-حسَب رأي الخبراء المتخصصين-هو السبيل الوحيد للفهم والاستيعاب المفضييْن إلى الإبداع والابتكار؛ فطالب العلم عندنا في الوضع الحالي واقع بين "مطرقة" فهم اللغة الأجنبية (الفرنسية في الحالة الموريتانية)، و"سندان" فهم العلوم، وهو وضع شاذ وغريب. ومن الأشياء المهمة (ذات الصلة بالمنظومة التربوية)، الاهتمام بالبحث العلمي، وتشجيع أصحاب المواهب.
4- تقوية الوحدة الوطنية، بنشر ثقافة التسامح والاحترام المتبادل بين مختلِف شرائح المجتمع، والقضاء على الظلم والغبن والتهميش، وتقليص الهوة المتعلقة بالفوارق الاجتماعية، ومعالجة مخلفات الرق، وكل ما يتعلق باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والتركيز على المشتركات المتعلقة بالعقيدة، والدين، والمذهب، واللغة، والثقافة، والعادات والتقاليد، وأنماط العيش، إلخ.
5-المحافظة على هُوية البلد وانتمائه الإسلامي العربي الإفريقي، واستقلالية قراره السياسي، ومساندة القضايا العادلة (وطنيا ودوليا)، والابتعاد-قدر المستطاع-عن الاصطفاف-لغير ضرورة- إلى جانب بلد شقيق أو صديق، على حساب بلد شقيق أو صديق آخر. فسياسة الحياد الإيجابي هي أفضل وسيلة للتأثير البنّاء. مع مراعاة أهمية التعاطف مع بعض مواقف الحلفاء السياسيين عند الضرورة (والضرورة تقدر بقدرها).
6-ترسيخ الديمقراطية، وتعزيز المؤسسات الساهرة على تحقيقها، بما في ذلك تقوية المنظومة الانتخابية، وغير ذلك ممّا يقترحه أهل الاختصاص.
7-العناية بالموريتانيين المقيمين بالخارج، بما في ذلك تكثيف التواصل والتشاور معهم، والاستفادة من خِبراتهم، والعمل على تذليل العقبات التي تواجههم في بلدان المَهْجَر، وتأمين حصولهم على الوثائق المتعلقة بالسفر وبالحالة المدنية، وتشجيعهم على العودة إلى الوطن والاستثمار فيه ليشاركوا في عملية التنمية الشاملة للبلد.
أشير، في ختام هذا التصور، إلى أنّ أيّ إجراء يتعلق بإجراء تشاور أو حوار أو نقاش، لا بد أن تتبناه الدولة وتقتنع به، إذا أردنا أن يُكتب له النجاح المتجسد في تنفيذ مُخرَجاته؛ فالدولة هي التي تمتلك الوسائل المادية اللازمة، وهي صاحبة القرارات المتعلقة بتنفيذ ما يُتَّفقُ عليه. والله ولي التوفيق.