( التيارات الفكرية في المواقع الموريتانية) لعل تكملة المقال السابق، تساعد في الإجابة على السؤال اعلاه في العنوان، وقبل ذلك نجد مبررا منهجيا للإشارة أولا الى المقارنة بين الأوهام في الفكر الاغترابي ــ وهي ليست من قبيل الأوهام ال" بيكونية " نسبة الى فرانسيس بيكون ــ المعبر عنها في مظاهر التشيؤ الذي فرضته على فضائنا الاجتماعي، والذهني في الوطن العربي "العولمة المتوحشة" ـ على حد تعبير المهدي المنجرة ـ حيث استطاعت أن توهم الكثير من الكتاب، وأهل الفكر بإمكانية التبشير بالتغير الاجتماعي البطيء، مع الابقاء على بنية الفكر التقليدي معشعشا في مجالات عديدة، ومنه في التفكير ــ وليس الفكرالمحكوم بشروطه ــ هذا " النموذج" الذي تفتقت عنه " قٌرحَة " العبقرية في طرح إشكالية " الأصول العرقية"، ومطالبة المعارضين لهذا الراي باللجوء الى المختبرات لمعرفة السلالات القبلية،، إن هذا التفكير( الاكاديمي ) ما كان أحد يتصور أن له بيئة يتنعش فيها، أحرى في أذهان فئة من النخبة الفكرية، وفي مجتمع من مجتمعات اليوم في الربع الاول من القرن الواحد والعشرين،، وهذا التصور الذهني الارتدادي في الفكر، يوازيه تخلف في الواقع، ويعيدان التشكيك في الفرضية القديمة الجديدة عن العلاقة الجدلية بين المجتمع، و الفكر، لأن التخلف الذي القى بظلاله القاتمة ، يغلب لفهم الظاهرة مبدأين في الفكر، وهما : " التضمن"، و " التفاعل الذاتي" داخل وحدة فرضها التخلف القاهر على كل من الواقع ، والفكر بدلا من فصلهما عن البعض ،،؟
وليكن فصلهما عن بعض معمولا به، وغير معقول تجاهله، فنظرية الانعكاس في تأثر الفكر بالواقع ــ وإن كنت لم أوًظفها من قبل في فهم الظواهر وتحليلها ــ فرضت نفسها في هذه العينة من التفكير، ولعل هذا التصور من السقطات الذهنية الأكثر فجاجة من استلاب الوعي الذي كان ـ ولازال ـ يٌعترض عليه، وهو لا يعدو أن يكون من المحاولات التقديرية لإستجلاب التقدم في الفكر الغربي من أجل أن يكون رافعة للمجتمع من الواقع العربي الغارق في مستنقع التخلف الذي ضاعفه الاحتلال الغربي منذ ان جاءت الحركة الاستعمارية وعبرت جيوشها الغازية البحر الأبيض المتوسط ، وسيطرت على الوطن العربي خلال القرنين 19 و 20، ولم يستنبت الغرب المتقدم ما بشر به من متغيرات قادرة على إحداث تحولات اجتماعية، وتطور فكري، بل الصحيح إن هدفه الاول، والأخير، كان ـ ولازال ـ نهب ثرواتنا، وتدمير انظمتنا الاجتماعية المتأثرة بمظاهر التحديث ، الأمر الذي جعل الكثير من ابناء الأمة يولي تفكيره نحو الماضي البعيد، يطرح على مجتمعاتنا اشكالات خارج الواقع، ولا تعبر عن مطالب المجتمع في التحديث المنشود، ولا عن مطالب المواطن اليومية.
لهذا علينا أن نتساءل عن أيهما أكثر قابلية للتببؤ في بيئاتنا الاجتماعية، والثقافية الموريتانية، والعربية عموما: الفكر المتشيؤ بأوهام العولمة، أو هذا الفكر المتخلف، ومنه التفكير السلالي المحلي اذا صح الوصف ؟
وفي المواقع الافتراضية نقاشات فكرية رائعة ، وقد أثمرت تفاعلا بين التيارات الفكرية التي أشرت الى بعضها سابقا في مقال الاسبوع الماضي، ولا أخفي على القراء الكرام أن توقعي طغى عليه التفاؤل نظرا لتعدد المواقع الإكترونية، واستوقفني بعضا مما ذكرته في الحلقة الأولى من المقال ، وما سأذكره في السطور التالية عن اهتمام الكتاب بالموضوعات التي دار النقاش حولها، وتجاوزهم لرصدر الإشكالات في الواقع، الى تقديم الحلول الفكرية في مجالات السياسية، ومحاولة استنهاض المجتمع الذي يعاني من تحديات العصر في الفترة الراهنة، ومن تداعيات الماضي القريب، وتأزيمها للواقع، وهذا لعمري جدير بالحديث عنه، والتنويه بما كتب ـ ويكتب ـ حوله، وإن لم أتفق صراحة مع زملائي في الكثير من الآراء، لكن ذلك لا يؤثر بأي حال من الاحوال ـ على بالغ التقدير والاحترام لكل الكتاب بمن فيهم أصحاب التفكير السلالي ، فالقاعدة الأصح المقتبسة من تراثنا، هي أن "الاختلاف في الرأي لايفسد للود قضية".
ويمكن تصنيف الكتابات في اتجاهات فكرية واضحة بمناهجها، ورؤاها، و في الحلول المستخلصة، وكذلك في النقد الموضوعي، الى جانب كتابات أخرى عبرت عن ميول، ونزعات نفسية لن أتطرق لها، وأحيل القارئ إليها في المواقع لعلهم يجدون فيها غير ما لم أجد ، أو أتكتم عليه الى حين يكون الوقت أنسب، والصدور ارحب لاستقبال الرأي المعارض:
1 ـ التيار الإداري، وقد أهتم أصحابه بمناقشة الظواهر، والاختلالات المستجدة، والمزمنة، ومثالها في الإدارة، و اشكالية وظيفة اللغة ، فالبعض يصنفها في مجال التواصل، والتسيير الإداري، وغيره ــ ونحن معه ــ يراهن عليها في استقلال الإدارة، ومقدمة أولية للاستقلال الوطني، وتحديد الهوية، وأبعادها الحضارية، ويلي اللغة تحديد المعوقات في : التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، والاصلاح الاداري، والمالي لمواجهة الرشى ، والمحسوبية، ومن أهم التحليلات ما كان يتعلق باستصلاح الاراضي، وبناء السدود، و التركيز على القطاع الفلاحي، ولكن هناك شبه اهمال للقطاع التجاري ربما بسبب تغول القطاع الخاص على العام فيه ، لكن من الاهمية بمكان تنشيط دور كل من القطاعين الزراعي، والتجاري لرفع الضغط عن القطاع الاداري غير المنتج اقتصاديا، كما تطرقت التحليلات الى غياب التخطيط ، كمعوق لمشاريع البنية التحية،،
وهناك مواضع أخرى تصدرت ـ وتتصدرـ المقالات اسبوعيا ان لم تكن يوميا، كالصحة ، والتكافل الاجتماعي، ويليهما النقاش الراهن حول التنمية التعليمية ، و الطروحات في مجال التنمية التعليمية لاتخلو من النقد السياسي، والقليل منها يهتم بالنقد المنهجي، والنظري، والأغلب هو الانتقاد، والتبرير الذي دافع عن المستوزين، ومدراء التعليم، أكثر من الدفاع عن التنمية التعليمية في مخرجاتها، النتائج ، والآليات المقترحة لها، ومن الامثلة على انسداد أفق هذا الحوار المفتوح على الأتجاهات حول أزمة التعليم ، وتقصير دور القائمين عليه،، غير أن التحليلات لم تطرح الاسئلة الاساسية، ولم تحاول الاجابة عليها، وبدلا ذلك ضخمت دور المعوقات الناتجة من السياسة الثابتة التي أهلكت الحرث، والنسل في المحاولة الفاشلة سنة 1999 م.
فغاب البحث في فلسفة التعليم العملية ، وطرح اسئلتها ، ومنها على سبيل المثال السؤال المستعار الذي استند الفرنسيون للإجابة عليه في بداية الإصلاح التعليمي في القرن التاسع عشر، وهو بالنسبة لنا أيهما تستطيع موريتانيا الإستغناء، أو الاستعاضة عنه المهندس، أو السياسي؟
2ـ التيار الاعلامي، وهو يحاكي وظيفيا ما يسمى في السوسيو ـ ميديا بالذباب الإكتروني مع احترام أصحابه من الكتاب والصحافيين، وتقدير جهودهم الفكرية، ودفاعهم المبرر ربما عن الشخصيات الاعتباريين، كالوزراء، والمدراء، والسياسة العامة، وخاصة في مجالي الصحة، والتكافل الاجتماعي، والتنويه الزائد لدور الصناديق الخيرية ل " التآزر " والاتكاء عليها في انقاذ المتضررين،، ومعظمنا يواسي ابناء الوطن، وينوه بالاعمال الخيرية، وإن كنا نأخذ على القائمين التقصير في ايجاد مشروعات تنموية منتجة، وتساعد على سد الحاجات اليومية لطالبيها، وتضمينها لأبعاد التنمية الوطنية، بدلا من فتح الأبواب للتسول المستدام من طرف النظام العام، ثم من طرف الاسرة الموريتانية، والفرد، واذا كان النظام، يقوم بذلك في إطار قيامه بالواجب تجاه المواطنين ، ولإكتساب الشعبية للرئاسة المنتخبة حين ولى حكم الانقلابات ، غير أن انتهاج سياسة التسول ثبت عدم نجاعتها في مواجهة التحديات، وإلا كانت سياسة التًسول السابقة لطلب الحبوب المسماة " لحميرة " في سنة 1969م أغنت المتضررين من الجفاف عن محلات أمل، أو كانت الأخيرة أغنت جيوش العاطلين عن العمل، وهم يزدادون عددا، ويراكمون الأعباء على النظام، بطلب المعونات النقدية في سنة 2021م.
كما حصل ــ ويحصل ــ التبرير في مجال الدفاع قبل الهجوم على المستجدات في الأنشطة العمومية، ومنها التعيينات خارج معايير الوظيفة العمومية، وكمثال على ذلك مشروعية الانتقائية في تعيينات السفراء الجدد، و أهليتهم للمناصب الجديدة،، والعربون الذي قدمه كل منهم سابقا، كخدمات للحكومة، وللوطن افتراضا، ومن أجل هذه مجتمعة نالوا استحقاق التوظيف الجديد المدافع عنه.، ولكن السؤال البدهي، هو: ألا تساعد هؤلاء معارفهم الاكاديمية، والجامعية، وخدماتهم في تجاوز اشتراطات الوظيفة العمومية ضمن فريق آخر، قد لا يتميز افراده بهذه الخبرات المشار اليها في الدفاع النظري عن التعيينات الانتقائية ؟!
(يتبع)