يعد غرض المديح النبوي أحد الأغراض الشعرية التي يتم من خلالها التعبير عن العاطفة الدينية، وهو أيضا باب من أرفع أبواب الأدب، إذ لا تصدر المدائح النبوية إلا عن قلب ملؤه الصدق والإخلاص والوفاء والعشق اللدني.
ظهر هذا الغرض منذ فجر الإسلام، ودبج فيه الشعراء الكثير من القصائد العصماوات، وظهرت أسماء ارتبطت بالمديح النبوي، مثل حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وغيرهم، في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يخل عصر من العصور من شعراء دوّت شهرتهم وذاع صيتهم في غرض المديح النبوي إلى يومنا هذا.
وقد أكثر الشعراء من النظم في غرض المديح واتجه الكثيرون نحو هذا الغرض، فطرقوا كل موضوع له صلة به صلى الله عليه وسلم، فتناولوا خصاله المحمودة، واستعرضوا سيرته العطرة، وعددوا صفاته الخلقية والخلقية، وأظهروا الشوق إلى زيارة قبره وسائر الأماكن المرتبطة بحياته، كما أشادوا بانتصاراته في غزواته، منوهين بصحبه الكرام، وتحدثوا - كذلك- عن الأوضاع المتردية التي كانت تعيشها البشرية قبله صلى الله عليه وسلم، وما من الله به على بني الإنسان بمجيئ هذه الرحمة... إلى غير ذلك من المضامين التي يمكن أن تدخل ضمن غرض المديح النبوي.
وقد دأب الشعراء على افتتاح قصائدهم المديحية بمقدمات غزلية، يذكرون فيها ما يعانونه من شدة الوجد، وهجر الحبيب، وما يكتوون به من نار الفراق ... إلى غير ذلك من لوازم العشق، وقد ظهرت هذه المقدمات في مرحلة نشأة هذا الغرض، إذ نجد كعب بن زهير رضي الله تعلى عنه يفتتح مديحيته المشهورة بالتغني بمحبوبته سعاد، فيقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبــــــــول = متيم إثرها لم يفد مكبــــــــــــــول
وما سعاد غداة البين إذ رحلــــــوا = إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبــــــــــــرة = لا يشتكى قصر منها ولا طـــــول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت = كأنه منهل بالراح معلــــــــــــول
شجت بذي شبم من ماء محنيــــــة = صاف بأطح أضحى وهو مشمول
و كره البعض إيراد هذه المقدمات التي تشتمل على ذكر محاسن النساء والتشبيب بهن، وما يجري للعاشق مع المعشوق من السفاهات، كمقدمة لقصيدة هدفُ صاحبها مدح أفضل البرية عليه أفضل الصلاة والسلام.
ويرى هؤلاء أن قصيدة كعب لا تصلح دليلا لمن سلك هذا المسلك، لأن كعبا نظم هذه القصيدة على طريقة شعراء الجاهلية، قبل أن يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يسلم على يديه ويعرف آداب الإسلام، ولهذا يرجع بعضهم إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لكعب ولغيره على ذلك، وتركه يتغنى بمحبوبته على عادة الجاهلية ويقول:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبـــــــــــــرة لا يشتكى قصر منها ولا طـــــول
ويحتج من يكرهون افتتاح قصائد المديح النبوي بهذه المقدمات بأن كعبا رضي الله عنه لم يحصل منه مثل هذا التشبيب الذي اشتملت عليه هذه القصيدة، ولا من أحد من مداح الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام، مثل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، ولا من غيرهم من الصحابة في مقدمة شعر مدحوه به، إلا مع قرب عهدهم بالجاهلية وعوائدها، أما بعد ذلك، وبعد أن عرفوا آداب الإسلام ولزوم كمال التأدب في خطاب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فلم يرو عن أحد منهم شيئ من هذا القبيل.
وممن يكرهون هذه المقدمات العلامة يوسف بن إسماعيل النبهاني الذي يقول في بداية كتابه "المجموعة النبهانية" الذي جمع فيه كثيرا من المدائح النبوية، لكثير من الشعراء:
"كنت قد عزمت على أن لا أضع في هذه المجموعة شيئا من القصائد التي وقع فيها التشبيب ووصف الولدان والنساء الحسان، لئلا أكون شريكا لناظميها في ما يلحقهم من الملام بتغزلهم بما ذكر في مقدمة مديح النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت ذلك - يقول يوسف النبهاني - في كثير من غرر القصائد، فلم تسمح لي نفسي بحرمان المجموعة من ذلك الدر النظيم، وحرمان أولائك الأفاضل من هذا المقام الكريم".
ولعل بعض المداح قد أطال ــ فعلا ــ في هذه المقدمات وأطنب فيها، فهذا عز
الدين الموصلي ــ مثلا ــ يصوغ مديحية من ثلاثة وثلاثين بيتا، يبدؤها بالتغزل، وذكر لوازم العشق، من ذكر الأحبة وديارهم، ومقاساة الأحزان والأشواق فيقول:
هل يبرئ الصب قبل الموت تقبيل = فقلبه بكؤوس الشوق معلـــول
عز المسير إلى سعدى به فغــدت = حالي بها قصر في شرحها طول
يا من يرق لمن إنسان مقلتـــــــه = يجري دما فهو بالأطلال مطلــول
شحت بوعد فسح الدمع منهمـرا = والخد والوعد ممطور وممطــــول
ثم يذهب في هذه المقدمة إلى أبعد من ذلك حين يقوم تصوير جسم محبوبته تصويرا حيا فيقول:
وشاحها من دقيق الخصر ذو سغب = وساقها شبعت منه الخلاخيــــل
قد جانس العطف في لفظ مراشفهـا = فقدها عاسل والثغر معســــول
و يسترسل في هذه المقدمة إلى أن يأتي على ستة وعشرين بيتا، ليخلص إلى المديح النبوي فيما لا يزيد على سبعة أبيات فقط.
ويرد بعض من يدعمون هذه المقدمات بأن الغزل الذي تتضمنه المقدمات في كثير من القصائد المديحية قد يكتسب ميزات خاصة؛ منها أنه غزل يتجاوز النطاق المادي أو الحسي الملموس إلى ما هو روحي ومجازي إيحائي، يتميز بنبل الإحساس رغم رقة الوجدان، فهو ليس مقصودا لذاته، فالشاعر في هذه الحالة لا يتغزل بامرأة معينة حتى يتحدث في هذا الغزل عن هواه، وإنما يدفع به إلى هذ الغزل حرصه على قفو خطا أسلافه المداح.
ويعترف هاؤلاء أنه يتعين على الشاعر أن يحتشم في هذا الغزل، وأن يتأدب، فيصدر قصيدته بشكوى فراق الأحبة وبعد ديارهم، ومقاساة الأحزان والأشواق، وبذكر المواضع كالعقيق وسلع ورامة... وأن يترفع عن ذكر محاسن النساء، كالتغزل في الأرداف والثُّدِي، ودقة الخصر وبياض التراقي... إلى غير ذلك مما ينبغي أن تصان عنه ألسنة مداح خير البرية عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم.
ويرى الفريق الأول أن سعاد التي يذكر كعب في مقدمة قصيدته هي زوجته التي طال غيابه عنها وفراقه إياها، في حين يرد الفريق الثاني أن الأمر ليس كذلك، ولا ينبغي لكعب أن يقوم بمثل ذلك، فالتغزل بالزوجة وإن كان جائزا، فإنه ليس من المروءة.
كما يروي مؤيدو هذه المقدمات أثرا يقول: "لا تمدحوني بخصي الشعر" وهو أثر لا أستطيع تصحيح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نفيها، لجهلي وقلة اطلاعي، إلا أني لم أقف عليه.
ثم إن كثيرا من الشعراء ــ وخاصة الشناقطة ــ ينأون بأنفسهم عن مثل هذا، فيفتتحون قصائدهم المديحية بالحمد لله، أو بالصلاة على النبي، أو باسم الله ونحو ذلك، وكل ذلك عملا بحديث شريف، فممن افتتح بالصلاة على النبي العلامة عبد الحي ولد التاب فقال:
على خير الأنام من الســــــــــــلام = صلاة لا تزول مع الســــــــــلام
شفيع المذنبين إذا تبـــــــــــــــــدت = خطايا المذنبين لدى القيـــــــــام
وممن جمع في بين باسم الله والحمد لله في افتتاح قصائدهم المديحية، العلامة لكبيد ولد جب ومن ذلك قوله في مقدمة إحدى مديحياته:
باسمك اللهم ابتدأت ابتـــــــــــــــداء = ولك الحمد دائما واتهــــــــــــــــاء
أحمد الله جل حمدا يوافــــــــــــــــي = ويكافي تكــــــــــــــــــراره الآلاء
وإن يكن الفقهاء تكلموا في شأن افتتاح ما لا يتناول الأحكام الشرعية بالبسملة، ككتب الأشعار وما إليها، بين وهو ما أشار إليه أحمد محمود (مم) بن عبد الحميد الجكني فقال:
السادة المصنفون الكملــــــــــــــه = شاع افتتاح كتبهم بالبسملــــــــــــه
وهكذا معَظَّم الرسائـــــــــــــــــل = والخلف بين السادة الأوائـــــــــــل
فيما إذا كان الكتاب شعــــــــــــرا= فمنعها اللخمي عنه يــــــــــــــدرى
ومضت السنة أن لا تكتبـــــــــــا = في الشعر والزهري يرى ذا مذهبا
وعن سعيد بن جبير الجـــــــواز = وتابع الجمهور قوله ففــــــــــــــاز
فإن منهم من يرى أن الشعر داخل في العلوم الشرعية، إذا كان مضمونه مديح الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لما يشتمل عليه من نشر لأخلاقه، ومن تعريف بقدره المنيف، وخصائصه ومزاياه ومعجزاته... إلى غير ذالك مما يطالب المسلم بمعرفته والاطلاع عليه، يقول شيخنا محمد الحسن ولد احمدو الخديم ــ أطال الله بقاءه ــ:
الشعر في علوم شرع دخـــــــــلا = إذا على مدح النبي اشتمـــــــــــلا
إذ فيه ذكر البعض من مزيـــــــة = ومن خصائص نبي الرحمـــــــــة
وذاك معرفته مطلوبـــــــــــــــــه = فهو من الشريعة المرغوبـــــــــــه
كما بنور البصر الهــــــــــــلالي = أتى به كالبدر لا الهـــــــــــــــلال