في هذا الــ11 من مارس 2021 تتجدد الذكرى، ذكرى المغفور له بإذن الله الدكتور يحي ولد حامدٌ، و بها تكتمل سنوات عشرٌ من الحزن مرت منذ ذلك اليوم الذي أعلن فيه عن وفاة واحد من أبرز العباقرة الموريتانيين، و أحد أفضل الرياضيين على مستوى العالم في مجال تخصصه، و مع تجدد الذكرى تكبُر الأسئلة الخانقة و تعلو الأسئلة الخافتة، حول ما قدمت موريتانيا لعبقريها الفذ هذا و ماذا قدم لها هو؟
مسيرة حافلة
بين ميلاده في أطار نهاية الأربعينيات و مدفنه في آمنيكير بولاية اترارزة ستون عاما و نيف، بدأها يحي، المولود للأديب و المؤرخ المؤلف المختار ولد حامدٌ، و آيات النبوغ ظاهرة عليه منذ كان صبيا دون العاشرة، و ظهرت بجلاء حين التحق بمعهد بتلميت مطلع الستينيات، فهناك بهر ذكاؤه بعض أساتذته و كان من المتفوقين فيه إلى أن أتيحت له فرصة السفر إلى مصر مستكملا فيها دراسة الثانوية و بدايات التعليم العالي، حتى عاد منها بشهادة الباكلوريوس في الرياضيات، ليحمل على عاتقه تدريس هذا العلم العظيم للطلاب في الثانوية الوطنية بنواكشوط بداية السبعينيات، و لا يبدو أن التجربة كانت تلبي له ما لديه من شغف و حب للرياضيات، فكان أن شد الرحال مجددا، و لكن إلى باريس هذه المرة، معمقا دراساته في الرياضيات حتى كللها بدكتوراه دولة 1980 و بقي حتى وفاته باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس.
العبقري
و دون خوض في تفاصيل و فروع المجالات التي ارتضاها ولد حامدٌ منتجعا لبنات أفكاره باذلا لها ذكاءه العبقري و حدسه الرياضي، فإن العارفين به و زملاءه من الرياضيين، و ليسوا بحكم تخصصهم ميالين لمنح الألقاب مجانا، يؤكدون على علو كعبه في مجاله و مستوى عبقريته و طريقته في الاستغراق مع المسائل الرياضية و حلها.
يصفه صديقه البروفيسور محمدن ولد أحمدو بأنه كان شغوفا بالرياضيات إلى حد التصوف، و يصفه الدكتور يعقوب ولد امين بأنه ذكَّر "الإنسانية بالدور الحضاري العظيم الذي لعبه العلماء المسلمون الأوائل حين كان الخوارزمي و جابر بن حيان و الكندي و غيرهم أساطين العلم و رواده"
و وصفه صديقه آلان بلاني بأنه "موريتاني عظيم و رياضي استثنائي" و كذلك وصفه البروفيسور يوسف ساديو كوني بأنه حتى "و إن لم يكن معروفا في بلده فإنه علَم" و وصفه أيضا بأنه "إنسان استثنائي".
هذه شهادات ضمن شهادات كثيرة لأصدقائه من الباحثين و العلماء ممن كتبوا عنه أو أدلوا بها في مناسبات متفرقة، و ليس من السهل حصر كل الشهادات عنه في مقال مقتضب كهذا، إلا أن الانطباع الذي يتأكد لسامع هذه الشهادات، و شهادات أخرى كثيرة، هي أن موريتانيا خسرت برحيل يحي ولد حامدٌ عبقريا لا يجود الزمان بمثله إلا نادرا.
المناضل
أيام التدريس في الثانوية الوطنية مطلع السبعينيات و في مناخ وطني هائج وجد ولد حامدٌ، القادم من مصر، نفسه مناضلا في صفوف حركة الكادحين و حاملا شعارات الترسيم و التأميم ما عرضه للاعتقال في سجن بيلا مع رموز الحركة الوطنية.
و على الرغم من انشغالاته الأكاديمية منذ التحاقها بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس إلا أن الهم الوطني ظل يشغل جزءا من حياته، و كان حاضرا في المحطات السياسية الحاسمة و شارك في بعض الحملات الانتخابية، و كان على علاقة وطيدة برموز المعارضة الموريتانية.
ساهم بشكل حاسم في حماية المحمية الطبيعية في حوض آركين من أي استغلال يهدد كائناتها الحية و قيمته العلمية و البيئية و الحيوية، حيث كان عضوا في مجلسها العلمي.
التعليم .. التعليم
خاض مع عدد من أصدقائه الباحثين و الأساتذة الجامعيين الموريتانيين نقاشات مكثفة للرفع من مستوى التعليم في البلاد و سعى له سعيا، إيمانا منه بأن التعليم ضمان للحاضر و المستقبل، و لهذا الغرض أعد مع صديقه البروفيسور محمدن ولد أحمدو، و بعض الأساتذة الآخرين، مشروعا في هذا الجانب و سعوا لنقله من دوائر التنظير إلى أرض الواقع عندما لاحت لهم بارقة أمل فيما أتاحته الفترة الانتقالية 2005-2007 من مناخ، و كان مشروعهم يسعى لخلق مسارات امتياز مفتوحة في المدارس الموريتانية ابتداءً من الثانوية، من أجل تنمية كل المواهب بطريقة تفتح للنظام التعليمي نوافذ للإبداع، هذه المسارات مرنة و بشكل لا مركزي في المدارس و في جميع المجالات سواء كانت علمية أو أدبية أو فنية، و طرحوا أيضا فكرة الأقسام التحضيرية و فكرة إنشاء سلك الأساتذة المبرزين في الرياضيات و الفيزياء و كان يتضمن توأمة لها مع بعض المؤسسات الرائدة في فرنسا بحيث يمكن للطالب بعد السنة الأولى أن ينهي الدراسة
كانا يعيان تماما خطورة مدارس الامتياز بصيغة غير الصيغة التي قدماها خشية ما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج التفاوت الطبقي و الشرائحي بصيغ جديدة، و عملا في مشروعهما على تقديم رؤية متكاملة تأخذ في الاعتبار الحالة الثقافية و الاجتماعية و الاثنية و الثقافية للمجتمع الموريتاني.
صحيح أن بعض الأفكار في المشروع الذي قدموا للحكومة آن ذاك قد طبقت و إن كان بعضها رأى النور بعد رحيل يحي، و لكن صحيح أيضا أنها لم تطبق بالطريقة التي رأوا أنها الأفضل.
ماذا قدمت له الدولة الموريتانية؟
حسب المتاح لدي من معلومات فإنه لا وجود حتى الآن لأية مؤسسة تعليمية، و لو مدرسة ابتدائية رسمية، باسم هذا الباحث الكبير الذي تميز في مجاله و هو "نظرية البيانات" أو "نظرية المخططات البيانية" و "النظرية التزايدية للأعداد" و كان متفوقا فيه على المستوى العالمي، و هذه مزية من النادر أنها وجدت في مواطن موريتاني غير يحي ولد حامد.
و حسب المتاح أيضا فإن التكريم الوحيد الذي كرمت به الدولة الموريتانية الراحل يحي هو منحه جائزة شنقيط في نسختها الأولى، أما الجائزة السنوية المعروفة باسمه فهي مبادرة من بعضه أصدقاء الراحل و هم المشرفون عليها غالبا، فمتى يحين الوقت لتكريم على قدر هذا العبقري؟
إن تكريم ولد حامدٌ يكون بتكريم أمثاله من العباقرة الموريتانيين الذي ألجأهم "الظروف" إلى أن يرحلوا عنا، و بتثوير تراثه و الاستفادة منه، و بالاعتراف له بأنه – كما وصفه الدكتور يعقوب ولد امين - "رفع من قيمة موريتانيا و كان من القلة الذين أعادوا للمسلمين شيئا من مكانتهم" و هذا الاعتراف يكون بأمور رمزية أثره متعد إلى شحذ همم الشباب و الطلاب في الثانويات.
و عشر سنوات من البعد تكفي .. فلتعدْ يا حامدٌ نريدك في الثانوية الوطنية و شوارع نواكشوط و كلية العلوم و كل مكان فيه رياضيات.