يعاني حقل الإعلام في موريتانيا من جملة اختلالات جوهرية أعاقت تطوير أدائه وإسهامه المباشر في عملية التنمية الشاملة وعطلت دوره الرقابي المنوط به وحولته إلى ساحة مشحونة وموبوءة مما يستدعي إعادة تنقيته وضبطه وتنظيمه بما يمكّن الفاعلين فيه من مؤسسات خصوصية وعمومية وصحافيين مهنيين من الإسهام الفاعل والبناء في تنمية البلد وتنوير الرأي العام حول مختلف القضايا الجوهرية التي تهم المواطنين وعملية التنمية الشاملة.
ولعل من أبرز تلك الاختلالات المعيقة رفد الساحة الإعلامية بمئات العناوين والأسماء ذات المضامين غير المهنية في معظمها، فضلا عن تعدد المنظمات والنقابات والروابط الصحفية، التي تحولت من أربعة حتى حدود العام 2006 (رابطة الصحفيين الموريتانيين والرابطة الوطنية للصحافة المستقلة والاتحاد المهني للصحف المستقلة في موريتانيا ورابطة الصحف المستقلة) إلى 26 منظمة ونقابة ورابطة وتجمعا وشبكة يضيق المقام والضرورة عن ذكرها جميعها، فضلا عن تعمد بعض الأنظمة إغراق الحقل بالمتطفلين والطفيليين والأدعياء الذين حولوا المهنة النبيلة إلى "مهنة من لا مهنة له" فأصبحنا نقرأ عناوين المديح والهجاء والقدح والتجريح والثناء كأجناس صحفية جديدة في ساحتنا الإعلامية حصرا؟!
ولعل من الأخطاء التي وقعت فيها بعض الأنظمة هي إلغاؤها لنظام الترخيص وتحويله إلى نظام (التصريح) تحت ذريعة تكريس حرية التعبير، فضلا عن عدم اشتراط ما يخدم المهنة في تقديم طلب التصريح سواء تعلق الأمر بنقابة أو رابطة أو بموقع أو صحيفة.
ولا شك أن المهنية والالتزام والمسؤولية هي ضرورة حتمية وشرط أساسي لوجود سلطة رابعة ذات مصداقية وتأثير قوي على الرأي العام وصناع القرار إذا توفرت بعض الظروف الضرورية مثل مأسسة القطاع وتجسيد مهنيته وتنقيته وتقنين تمويله "غير المشروط" وفق ضوابط موضوعية يحددها المهنيون الممارسون وليس غيرهم.
ومن أبرز معضلات حقل الصحافة الخاصة في بلدنا، حتى الآن، عدم وجود نقابة موحدة ووحيدة للصحفيين الموريتانيين، رغم وجود نقابة تحمل هذا الإسم، ورئيس لها يحمل اسم نقيب، لكن الواقع يقول إننا أمام أكثر من ثلاث نقابات ورابط للصحفيين (الأفراد) أقدمها رابطة الصحفيين الموريتانيين التي تأسست عام 1994 وهي عضو في الاتحاد الدولي للصحفيين والممثل الوحيد للصحفيين الموريتانيين في اتحاد الصحفيين العرب فضلا عن عضويتها في عدد من المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، وكذلك نقابة الصحفيين المستقلين الموريتانيين التي تنشط في الساحة الإعلامية منذ حوالي عقدين من خلال نشاطاتها التكوينية والتحسيسية الموجهة لخدمة الصحفيين، فضلا عن وجود تجمعات للصحفيين والصحفيات وغير ذلك من العناوين المتعددة،
وهكذا يبقى المطلب الملح، الذي من شأنه إصلاح الحقل وتجسيد مهنيته، هو وجود نقابة موحدة تستقطب كافة الصحفيين الموريتانيين ونقيب يمثل جميع صحفيي موريتانيا حتى يستطيع هذا القالب التوافقي أن يدافع عن جميع الصحفيين الموريتانيين ويمثلهم باقتدار وبمسؤولية ومهنية وإجماع، ولا يشترط أن يحمل هذا الإطار اسم نقابة، فقد يجمع الصحفيون الموريتانيون على تسميته باتحاد عام للصحفيين أو رابطة للصحفيين أو أي اسم جامع مجمع عليه.
كما أننا في الجهة المؤسسية بحاجة أكثر إلى إطار موحد يضم في عضويته كافة المؤسسات الصحفية الفاعلة (صحف ومواقع إخبارية وحتى إذاعات وتلفزيونات) حيث نجد أننا أمام أكثر من ست اتحادات للمقاولات الصحفية مثل: الاتحاد المهني للصحف المستقلة في موريتانيا الذي تأسس في مارس 1994، وتجمع الصحافة الموريتانية، الذي تأسس منذ أزيد من عقد على أنقاض الرابطة الوطنية للصحافة المستقلة، ونقابة ناشري الصحف، واتحاد الإذاعات والتلفزيونات، واتحاد المواقع الإخبارية واتحاد المواقع الالكترونية وجميعها تتقاسم عضوية المؤسسات الصحفية الورقية والالكترونية والسمعية البصرية وينتسب إليها أرباب المقاولات الصحفية الناشئة في بلدنا، مع بعض النقابات والروابط الأخرى التي لا يتسع المقام لسردها جميعا في هذا الحيز.
وهكذا نجد أن انتساب جميع الصحفيين لإطار واحد يحمل اسم نقابة الصحفيين الموريتانيين سيمكننا من مخاطبة هذا الإطار كجهة وحيدة مسؤولة عن الدفاع عن مصالح الصحفيين العاملين في مختلف المؤسسات الصحفية، وهو ما يتيح لنا الحديث عن نقابة للصحفيين ونقيب للصحفيين، أو رابطة للصحفيين ورئيس لها وهكذا، كما يتيح لنا خلق إطار جامع يضم كافة المؤسسات الصحفية الورقية والإلكترونية والسمعية البصرية الحديث عن مخاطب أوحد للمؤسسات الصحفية وأرباب المقاولات الصحفية.
وما لم يتحقق ذلك، فإن السلطات المعنية مثل وزارة الثقافة الوصية على الإعلام، المنهكة بمهام القطاعات الأخرى، كالثقافة والصناعة والتقليدية والعلاقات مع البرلمان، تبقى، إلى جانب السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، مطالبة بالحياد والتعاطي الشفاف والنزيه مع مختلف هذه التشكيلات التي تنشط في الحقل الإعلامي الوطني منذ عقود وسنوات بدون أي تحيز لإحداها على حساب الأخرى تماما كما يتم التعاطى مع مختلف النقابات العمالية واتحادات أرباب العمل في موريتانيا من قبل الجهات المعنية.
إن ما توصلنا به من مخرجات اللجنة العليا لإصلاح الصحافة، رغم احترامنا لرئيسها وخبرته وتجربته الطويلة، ولكافة أعضائها، يبعث على القلق في بعض جوانبه ويستدعي منا جميعا المطالبة بمراجعة بعض فقرات تلك المخرجات ومراجعتها من طرف الهيئات الصحفية المهنية قبل إقرارها وإجازتها من طرف الحكومة والبرلمان، ولعلي هنا أكتفي بنموذج واحد مما ورد في تقرير اللجنة والذي، برأيي المتواضع، يحتاج إلى موقف منه، وهو المطالبة بوقف صدور جريدتي "الشعب" و"أوريزونه"، وهي توصية تعني في خلاصتها محو أرشيف مكتوب وموثق للدولة منذ ما بعد استقلالها بسنوات قليلة وحتى اليوم، لذلك كنت أتوقع أن توصي اللجنة الموقرة بتطوير مخرجات هاتين الصحيفتين الأعرق في بلدنا بدل التوصية بإغلاقهما ؟! ومع ذلك فللجنة اجتهاداتها التي نحترمها لها وإن كنا لا نتفق معها في بعض ما ذهبت إليه.
ولا شك أن عملية الإصلاح الجذرية التي نتطلع إلى تجسيدها جميعا، تتطلب تكاتف الجهود والتنسيق والتعاون والتكامل حتى نصل إلى الأهداف النبيلة التي تمكننا من تغيير الواقع المتردي للسلطة الرابعة في بلدنا إلى واقع أفضل يلبي تطلعات الجميع.
ورغم حديث "البعض" عن "تحالف فرانكفوني – إخواني يسيطر على المشهد الإعلامي" منذ وقت وجيز، إلا أن ذلك قد لا يبدو مقبولا ولا مستساغا ولا حتى منطقيا لسبب بسيط وهو أن الفاعلين في الحقل الإعلامي من غير "هذا التحالف" لا يقبلون الانخراط في "تحالف غير مهني، مؤسس على مصالح ضيقة لا تخدم عملية التنمية والإصلاح المنشودين" هذا إذا كان هناك فعلا مثل هذا "التحالف" الذي يجري الحديث عنه منذ بعض الوقت وعن هيمنته على الساحة الإعلامية؟
إن عملية الإصلاح تتطلب، وكما سلف، تضافر جهود كافة المهنيين، بغض النظر عن مدى قربهم أو بعدهم من دوائر صنع القرار والإدارة، لأن الممارسين هم أكثر فاعلي الحقل إلماما باحتياجاته ومكامن الخلل فيه وهم أولى بإصلاحه من غيرهم.
ولعل صناع القرار يلتفتون إلى خطأ جسيم تمثل في سلسلة تعيينات سياسية بامتياز على رأس القطاعات الوصية على الإعلام من غير الإعلاميين ذوي الخبرة والكفاءة والإلمام بأولويات الإصلاح و"التمهين" وهو أمر آن له أن يتوقف ونحن على أعتاب تجسيد عملية إصلاح شامل لكل القطاعات وفي مقدمتها "تمهين" السلطة الرابعة.