"أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تُقم لكم على أرضكم"، حسن الهضيبي"
يتحاشى الكثير من أرباب القلم وربّان سفينة الكلمة قول الحقيقية خجلا ومحاباة لمن فرضوا أنفسهم على المسلمين بلغة الدم والسلاح ، كما أن الكثير أيضا ساهم بحماسه العاطفي في تجهيل المسلمين عبر فقاعات أورثت مجتمعاتنا الذل والهوان .
لقد ناقشت القضية المالية وأبعادها المحتملة في مقال سابق بعنوان " جمهورية مالي والحرب الدراماتيكية "وفي هذا سيكون الحديث عن أشباح الصحراء المتماجنين في أغوارها . لقد كثر التماجن في قضية مالي (إقليم آزواد ) هذه الأيام ، بين مبارك لحرب يعدُّها ويعتبرها حرب تحرير وتطهير للأرض من أشباح الصحراء ، وبين من يعتبر القوات الفرنسية وحلفاءها الغازية قوات صليبية ويجب التصدي لها بما أوتي الشخص من إمكانيات ’’
لكن غاب عن هذين الفريقين أن المسألة ليست حرب تحرير بما في الكلمة من معنى ، وليس الطرف الآخر المقاتل من قبل الصليبيين أقل جرما من الغزاة ’’ قتلٌ وسفك لدماء المسلمين بمفاهيم خاطئة ــ لم تصدر عن أناس يدركون مقاصد الشريعة العامة ويقدّمون قطعي النص على ظنه ومتواتره على آحاده ، والمجمع عليه من الأقوال على شاذه ’’
لقد غاب عن جميعهم تقديم المصلحة العامة على الخاصة ودفع المفسدة الكبرى بالصغرى وارتكاب الضرر الأخف من أجل دفع الضرر الأعظم ’’ عاطفة جياشة ممزوجة بحماس شبابي بعيد عن منطق الدين والعقل ... تكبير وتهليل ، قطع للأيدي وجز للرؤوس بالسكاكين ، تكفير لكل من لم يستجب لدعواتهم المغرضة والمغرّدة خارج السواد الأعظم من المسلمين ’’
لنرجع قليلا إلى حيث بدأ الاسلام وانتشر في جزيرة العرب لنستشف من تلك الفترة الزمنية كيف بدأ هذا الدين ودخل الناس فيه أفواجا دون أن تسيل قطرة دم ودون أن يجتث دعاته من أصولهم ويمزّقوا كل ممزق . ثم علينا أن نحدد الفترة الزمنية التي نعيشها الآن هل هي عهد مكي أم عهد مدني أم مزيج بين المكي والمدني ؟ أم أننا لاندك حتى ماهية ذواتنا وهوية إسلامنا ؟
إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يبعث ليقطع الرؤوس ويبتر الأيدي ويشهر بالزاني كلا ، بل إن هذه الحوادث ــ التي وقعت ــ كانت لها أسباب ومبررات لا يختلف عليها أصحاب الفطرة السليمة من عامة الناس فضلا عن علمائهم . ولم تشرع الحدود الشرعية كمقصد ذاتي وأصلي ’’ فالشريعة لا تستفيد شيئا من قطع يد فلان وعلان ’’ بل هي مقاصد تابعة وخادمة ’’ الهدف منها صيانة أموال الناس وأعراضهم من أجل تحقيق المقصد الأصلي والحقيقي وهو العبودية لله ــ عزّ وجل ــ على الوجه الذي يوائم بين المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية ومال هذه المقاصد من عوارض من حيث تحقيق رغبات الإنسان التي لا تخالف فطرته التي فطره الله عليها .
العهد المكي كان يرتكز أساسا على الدعوة سرا دون إبداء أي أسلوب من أساليب القوة حتى تمكن النبي ــ عليه السلام ــ من إقناع عظماء القوم وأشرافهم بالإسلام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة ــ رضي الله عنهم ــ وتمكن كذلك من إقناع الجميع أن دعوته سلمية وليس القصد منها حرق الأخضر واليابس ، بل إنه كان يراعي حتى شعورهم من تشويه دعوته بقوله لعائشة ــ رضي الله عنها ــ " لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إسماعيل " ، وكانت دعوته قائمة على اللين والحكمة ويسأل ربه دائما أن يخرج من أصلاب قومه من يعبد الله ولا يشرك به شيئا . وبعد أن حقق الله له النصرة ووجد من يؤازره ويناصره خارج مكة ، أمر أتباعه بالهجرة إلى الحبشة مرتين ، وأمرهم كذلك بالمغادرة إلى المدينة المنورة دون أن يظهروا أي أسلوب من أساليب المقاومة والحرب ، بل الخُلق الحسن والأدب الجم والصدق في التعامل هو أساس دعوته وتعامله .
هكذا ظل القوم حتى أصبح لهم شأنا وأصبحت لهم قوة حسية تضاهي قوة قريش ، وأصبح المركز الرئيسي للقوم ومنطلق دعوتهم من جديد ’’ المدينة المنورة . في العهد المدني تغيرت الأحوال شيئا فشيئا ، غير أن الجانب الأخلاقي في التعامل بقي نبراسا لكل من دخل في الإسلام مع التركيز على كل ما يفيد الدعوة النوبية من نبيل الأخلاق وشيم المروءة .
فرض القتال بغية ردع المعتدين وكل من تسول له نفسد التطاول على قيم رب السماء ، كما فرضت كل التشريعات في هذا العهد بتدرج ، وبقي ــ عليه السلام ــ محافظا على السمعة الخارجية لدولته قائلا " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وشدّد في جانب الدماء قائلا " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله " وقال أيضا في شأن المعاهدين " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما " . كما بين في هذه الفترة الخطوط العريضة والواضحة لأحكام الجهاد ـــ الخاصة منها والعامة ــ وكانت عموما تحمل طابع الرفق واليسر ، بل إن هذا الجانب كان مقصدا أساسيا وأصليا راعته الشريعة في كل تشريعاتها.
إن العهد المدني كان عهدا ربانيا اتسم بوضع للمسات الأولى والبصمات لمفهوم الدولة في الإسلام ، وبعد وفاة النبي ــ عليه السلام ــ ظل خلفاؤه الراشدون على هذا النهج وكانت خطبة أبي بكر الصديق في توديع جيش أسامة بن زيد ــ رضي الله عنهم ــ نبراسا ومشعلا حضاريا في كيفية تعامل الجيوش الغازية مع من يغزونهم ، وهكذا جرى العمل عند من أتوا بعده من الخلفاء . وبعد أن أندرس الإسلام في زماننا واختلط الحابل بالنابل ، أصبح كلٌ يتصرف على هواه دون أن يرجع إلى العلماء الربانيين ، بل أصبح الكل يلوك عبارات " علماء السلطان ، وفقهاء الحيض والنفاس " وما إلى ذلك من ساقط القول ورذيله ، وطارت العنقاء بالتكفير والتفجير ، وأصبحنا لا نعرف هل نحن مكيين أم مدنيين؟ يمينيين أم يساريين ، علمانيين أم فاشيين ، ابراكماتيين أم نازيين !!! كثر الهرج والمرج في زماننا ، وأصبح القتل تجارة سائدة وبوحشية حتى ، ليتحقق فينا قوله ــ عليه السلام ــ " والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل فقيل كيف يكون ذلك ؟ قال الهرج القاتل والمقتول في النار" إلا من رحم الله .
نحن نعلم أن الغرب حربه على الإسلام ليست جديدة وأساليبها متنوعة من عهد الاستعمار إلى يومنا ، لكن علينا أن لا ننجر إلى ما يحقق أحلامه وأطماعه ، بل ويجلبه إلى أراضينا والتي لم يذهب عنها إلا ليرجع إليها من جديد . إن الإقليم الآزوادي ابتلاه الله بلعنة أشباح الصحراء الذين يصولون ويجولون في عمقها غير آبهين بأحوال فقرائها الذين ظلوا ولعقود يطالبون الحكومة المالية بتوفير أبسط مقومات الحياة ’’ طب وتعليم ، ومع هذا الكابوس الذي ظل يطاردهم في كل ليلة جاء هذا الكابوس الآخر الذي يقطع أيديهم ـــ متناسين عهد عام الرمادة ــ ويجلد ظهورهم بلا بينة أو برهان !!! إن الذريعة التي يتقوقع خلفها المتماجنون بفرض الإسلام على الناس بمنطق القوة ، لن يلد غير العاهات ومزيدا من الحسرات والزفرات على بيضة الإسلام ، فهم لم يفهموا الإسلام ــ بالمفهوم الشامل ــ ولم يفهموا التعامل مع الواقع وتحدياته والتي من أبسط قوانين لعبته أن العالم الإسلامي بأجمعه لا يملك مقعدا واحدا في مجلس الأمن الدولي ولا يملك حتى حق التأثير في الأمم المتحدة . صحيح أن هؤلاء كفار ، لكننا لا نملك إلا أن نتعامل معهم بمنطق قوتهم ، ونحن في نهاية الأمر غير مكلفين ــ شرعا ــ بغير ما نطيق ، فلسنا معتزلة نفرض على الناس ما يعجزون عنه ، ولسنا خوارج نكفر كل من يتعامل معهم من عامة المسلمين .
ثم إن الجيوش الصليبية الغازية من جلبها غير تصرفاتكم الرعناء الشيطانية والبعيدة عن أي منطق ؟ هل نقلت فرنسها عتادها العسكري ودعت حلفاؤها قبل مجيئكم ؟ وقتالكم لجيوش المنطقة بأسرها والحكم على حكامها بمنطق الردة والزندقة هل سيحتفون بكم في هذه الحرب المدمرة ويتلقونكم بالورود ؟ من زرع سوء فعلته سيجني ثمارها !!! بعد كل ما تقومون به من قتل وجريمة أنتم في النهاية شعب الله المختار والفرقة الوحيدة الناجية من براثين الشرك وغيركم استبدل الضلالة بالهدي والغواية على الهداية ؟؟؟ إنكم لن تقيموا دولة إلا في مخيلاتكم وستجلبون إلى الإسلام من الهوان أضعاف ما يعيشه أهله في مشارق الارض ومغاربها .
نعم ، هناك متماجنون آخرون حاولوا ويحاولوا أن يصبغوا دماء هؤلاء الحمراء بلبن سائغ للشاربين ، أين أنتم يوم غزوة " لمغيطي ، وتورين ، والغلاوية " ؟ أم أنكم تماجنتم وتناسيتم تلك الأرواح البريئة التي قتلت بدم بارد ؟ هل تتذكرون كم من امرأة رملت ، وكم من طفل يتم ؟؟؟ إن هؤلاء القوم لم يجنوا على أمتنا المسلمة غير العار والشنار والدمار ، فلا أرض حررت ، ولا حقوق استرجعت ، بل أصبح المسلم مهانا أينما حل ، معذبا أين ما نزل ، كل هذا بسبب تصرفات صبيانية طائشة ، ركبها الشيطان في فترة من الجنون الشبابي دون أن يجد لها المارستونيون دواء .
فآمريكما أصبحت أقوى من ذي قبل ، وأفغانستا دمرت ، والصومال أصبحت مثالا للفوضى الخلاقة . أما بخصوص مشاركتنا في الحرب ــ أعني الدولة ــ فهذه لا يحددها العامة والدهماء ، بل الخبراء العسكريون من جيشنا الوطني وما يرونه من مصلحة راجحة ، باستشارة من علمائنا الربانيين الذين يدركون مدى صعوبة الموقف من الناحية الشرعية من حيث تقديم المصلحة العامة على الخاصة ... بعد كل هذا هل سيبقى المتماجنون يتماجنون مولين أدبارهم لنصوص الكتاب والسنة ’’ القطعية منها والظنية ، ناسخ الوحي ومنسوخه ، ومدارك الإجماع ومظانه ، وعلل القياس ومناطه ، ومقاصد الشارع وحِكمه ، أم أن كل هذا من باب تحكيم الرجال في الوحي ليتحقق قول أسلافهم لا حكم إلا لله ؟
المهدي ولد أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الاسلامي