لقد تساءل أحد الباحثين ـ عندما أصبحت ثورة الكتابة النسائية في مرحلة الجنون الإبداعي الذي يلعن بشكل علني ثقافة الانحطاط التي تكرس دونية المرأة ـ قائلا: «إلى أي حد تمكن الخطاب التحرري النسائي من صياغة ملامحه وتحديد بدائله؟ وهل اللغة والخطاب يسعفان استراتيجيا هذه العملية الشاملة والجذرية في الصياغة؟».
وانطلاقا من هذا التساءل المشكك ضمنيا في قدرة الخطاب الأدبي للمرأة على حمل خطة استراتيجية لتحررها من أدران التخلف والظلم والإقصاء....
حاولت الناقدة والكاتبة المغربية الدكتور زهور كرامي أن تجيب عن تلك الأسئلة بقولها: "فهمُّ الكتاب النسائية عند المرأة باعتبارها واجهة تحررية أصبحت من التصورات السائدة، إن المرأة حين تكتب فإنها تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزمن لتعلنه ـ أو تلعنه ـ في حوارها أو صراعها..." وهكذا أرادت الناقدة أن توضح علاقة المرأة الكاتبة مع المكبوت المتراكم منذ زمن سحيق...!
إن الكتابة النسائية في جنس السرد قد شكلت ذاتية للمرأة، ولم تنجح منها إلا تلك الأعمال التي تناولت القضية بشكل جريء وقوي "تشكل المرأة موضوعا سجاليا في مستوى التعبير الاجتماعي لأي مجتمع على اعتبار أن تغيير الصورة الثابتة حولها من شأنه أن يحرر الذاكرة؟ ويهيأ التفكير بتقبل صورة جديدة هو الذي اعتاد أن المرأة موضوعا يتم التعرض له في الإبداع والأساطير والحكايات....".
فإن المرأة عندما تكتب أو تنتج الكتابة الأدبية فإنها تغير موقعها داخل أشكال التعبير من موضوع إلى ذات، وتدفع بالتالي الفكر إلى النظر في وجودها كفاعلة، وكأنها تقول مع ديكارت: "أنا أكتب وأبدع إذا أنا موجودة" وهذا الحضور هو الذي يحاول بشكل مستمر ومنذ قرابة عقدين من الزمن أن يزيح الستار عن التجربة النسوية في مجال ظل حكرا على الرجل (السيد والمتعلم) لأن المرأة ظلت في حدود رسمت لها "وندر أن جرى الاهتمام بها خارج هذه الوظيفة النمطية الموروثة، وكل ذلك عطل ظهور وعي أنثوي يمكن الثقافة أن تستقر على أسس متوازنة ومتفاعلة....".
وقد علقت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي على المستوى الذي وصلت إليه المرأة العربية بقولها: "لقد اتسمت الكتابة النسائية بطابع الثورة والإبداع، متخذة نهجا نسائيا تكتسبه المرأة بذكائها الذي هو وليد غباء سابق" (نسيان ص: 27). وتعني بذلك الغباء ما مورس عليها وليس فطري لأن التجربة الحالية أثبتت قدرتها على التميز....
هي التي هاجمت الرجل العربي بعدم وفائه وقد أوردنا نموذجا في المقال السابق من موقفها اتجاه الرجل الذي حملته ثقافة التمييز، ووصفته بحساسيته المفرطة اتجاه ثقافة المرأة وخروجها عن دائرة الحريم، ولكنها في روايتها الأخيرة والأكثر ثورة وتشكيكا في الرجل اعتذرت ضمنيا في سياق متصل من روايتها "نسيان" بقولها: "لما يعتقد النساء أن الرجال جميعهم خونة فثمة سادة للوفاء جاهزون للموت عشقا، كما ثمة نساء خائنات يقتلن في الرجل رغبته في الإخلاص" (نسيان ص: 213).
ولهذا تكون أحلام حاولت أن تأتي بأدب متوازن، يتخذ نمطا من العدل، وذلك ما خصصت به جزءا كبيرا للمرأة التي تعاني من ظلم أكثر....
وقد ظهر من خلال الكتابة النسوية السردية المعاصرة مع الجيل ـ الذي سميناه في مقال سابق ـ جيل التجديد، الجيل الذي جاء في وقت يمكن أن يقال فيه أن وطأة الموروث بدأت تتراجع قليلا خلافا لأيام ليلى بعلبكي في عقد الخمسينيات عندما كتبت روايتها "أنا أحيا" والتي تعرضت للمحاكمة؛ مما انعكس سلبا على جرأة الكتابة النسوية آنذاك، وأصابها بالتراجع متخذة حينئذ أسلوب المهادنة وكتابة السيرة الذاتية للمجتمعات العربية، إضافة لإثارة خجولة للقضايا الاجتماعية، الشيء الذي أخر ثورة المرأة العربية في وجه الظلم والاضطهاد، لتنطلق في تسعينات القرن الماضي مع أحلام مستغانم من الجزائر، وليلى العثماني من الكويت، وآمال مختار من تونس، وهيفاء بيطار من سوريا، ورجاء صانع من السعودية، ويمكن للمتبع لمسيرة السرد النسوي أن يلاحظ انسجام نسبي أو تواطئ ضمني تم بين المتلقي وهذا الجيل، خاصة من الجيل الجديد من القراء الذين أصبحوا أكثر وعيا من ذي قبل، مما يجعل الأمر يعود إلى مستو ى الوعي الذي بدأ ينتشر في أفق المجتمعات العربية وانحسار النظرة التقليدية المتحجرة في زوايا ودوائر شبه محدودة، وكذلك اطلاعنا على تجربة الآداب في البلدان الأكثر تقدما.