موريتانيا..بلد المليون شاب من دون عمل / بوبكر ولد أحمد

"كلما تقدمنا باتجاه المستقبل تقلصت فرص العمل " بهذه العبارة لخص أحد كبار الاقتصادين طبيعة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، حيث تعاني جميع دول العالم تقريبا من ظاهرة البطالة، لكن حدتها وطبيعة مواجهتها واحتواء تداعياتها تختلف من بلد الي آخر.

في موريتانيا، لا يختلف اثنان أن هناك ازمة بطالة على غرار جميع دول المنطقة، و هو أمر طبيعي بالنظر الي تراكمات اقتصادية و اجتماعية عديدة، لكن التطور الديمغرافي و تبديد جهود عقود من التنمية ضاعفا من حدة الازمة ليجعلها تقترب من الكارثة.

وسيزداد الأمر سوءا مع غياب حشد المجتمع و الدولة و الاسترخاء و الترهل في مواجهتها بسبب البيانات الغير الدقيقة و الاستراتيجيات السيئة وهو ما ينذر بمخاطر تهدد الأمن و السلم الاجتماعي علي المدي المتوسط في أحسن الأحوال.

كارثة البطالة في موريتانيا...
 

هناك اضطراب حقيقي في بيانات البطالة التي لا يوجد لها غير مصدر وحيد وهو الاحصائيات الرسمية حيث أشار مسح اجراه المكتب الوطني للإحصاء عام 2013 أنه من بين مليون و ثلاثمائة وستين ألف شاب (بين 15 و 34 سنة) في موريتانيا يوجد فقط 107 الالاف لديهم وظيفة رسمية براتب شهري (38566 في القطاع العام + 68561 في القطاع الخاص) و 300 ألف تقريبا لاتزال تتابع أنشطتها الدراسية.

أما البقية و التي تقدر بحوالي المليون تقريبا فغالبيتها إما غير نشطة (لا عمل، لا دراسة و لا تكوين وعددهم 528 ألف ) أو تمارس اعمال( دون أجر شهري ويفتقرون إلى الأمن الوظيفي ولا تتوافر فيهم الشروط المطلوبة للحصول على معاش تقاعدي 141 ألف مزارع و 96 ألف أنشطة اخري) و إما عاطلة عن العمل .

ورغم ان الخطب و التقارير الرسمية تؤكد أن معدل البطالة الكلي 10 % في موريتانيا (بناءا علي تعريف منظمة العمل الدولية أن العاطل عن العمل هو كل إنسان قادر على العمل وراغب فيه ويبحث عنه ويقبله عند الأجر السائد ولكن دون جدوى ). لكنها تتجاهل حقيقة مفادها أن 56% من السكان في سن العمل لا يسعون للبحث النشط عن فرص عمل ومن ثم لا يحسبون ضمن العاطلين وأن الكثيرين ممن تعتبرهم غير عاطلين يعملون في القطاع غير المصنف دون أجر شهري ويفتقرون إلى الأمن الوظيفي.  

وتظهر تجليات البطالة في موريتانيا داخل كل أسرة حيث تتوفر كل عائلة بين أفرادها على نسبة لا يستهان بها من العاطلين كما تبدو جلية للعيان من خلال طوابير الشباب المزدحمة امام المؤسسات العمومية والخصوصية فور اعلانها لأي اكتتاب. كما تظهر في المناسبات السياسة المختلفة حيث يتزاحم السياسيون والوجهاء لاستجداء المسؤولين الرسميين من اجل الحصول على وظائف لشباب من محيطهم الاجتماعي او الاسري!! كما ترك الكثيرون مواقعهم السياسية وآرائهم لنفس السبب!!!

وقد سنحت لي شخصيا للأسف خلال إحدى وظائفي السابقة كمدير للمصادر البشرية لبعض الشركات والمنظمات الأجنبية العاملة في موريتانيا مقابلة عشرات الشباب الجامعيين من مختلف الفئات يتقدمون بطلبات للحصول علي وظيفة حارس!! هذا بالإضافة الي حجم الترشحات الهائل الذي نتلقاه عند كل وظيفة (250 مترشح لوظيفة محاسب، 600 لعامل ادخال بيانات، 500 لسكرتيرة.... الخ) .

أسباب الكارثة.

لقد تخلت الدولة منتصف السبعينات عن الالتزام بتعيين خريجي النظام التعليمي، وعجزت عن خلق البيئة الاقتصادية المناسبة لخلق الوظائف الكافية في ظل تضاعف اعداد الوافدين الي المدن بفعل موجات الجفاف المتتالية ، ولقد شكل ظهور أسواق عمل عربية وأجنبية بفعل العولمة  متنفسا هاما مند التسعينات وخصوصا دول الخليج و اوروبا .

لكن سوق العمل واجه صدمات قوية في العقدين الاخيرين أدت إلى انفجار أزمة البطالة في موريتانيا اهمها:

تطببق برنامج الإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وهو بالأساس برنامجا انكماشيا يستهدف السيطرة على معدل التضخم المرتفع وعلى العجز في الموازين الداخلية و الخارجية، مع القبول بمعدل نمو منخفض ومعدل بطالة مرتفع نسبيا ، ومع استمرار هذا البرنامج والبدء في برنامج الخصخصة أي بيع القطاع العام للقطاع الخاص المحلي والأجنبي وإحالة جانب كبير من العاملين فيه إما الي الشارع وهم في سن العمل مما حوَّلهم إلى عاطلين.

زاد من حدة الازمة هشاشة القطاع الخاص الوطني وانحصاره أساسا في مجالي التجارة و الخدمات  و تركز النشاط الحكومي في تطوير البني التحتية و تمويل الإنفاق الجارٍي بدلا من بناء أصول إنتاجية جديدة، مما أسهم في إضعاف فعالية الاقتصاد الموريتاني في خلق فرص العمل، وأدى إلى استفحال كارثة البطالة.

هذا بالإضافة الي المتغيرات الديمغرافية حيث يزداد بشكل متسارع اعداد البالغين الشباب بشكل متضاعف جدا مما يعني ظهور عاطلين جدد في ظل العجز المستمر عن توفير الفرص.

انهيار اسواق العمل الاجنبية و العربية بفعل تراجع اسعار النفط وسياسات الهجرة الجديدة في اوروبا و أمريكا حيث تزايدت أعدد العائدين من الامارات و انغولا و اسبانيا و الولايات المتحدة...الخ ليشكلوا ضغطا اضافيا علي سوق العمل المحلية المنهار  .

ورغم ان الحكومة اكتتبت مئات الشباب في الادارة العمومية و التعليم بالإضافة الي مختلف اسلاك الامن و الجيش  خلال السنوات الماضية الي ان تأثيرها يبقي محدودا جدا أمام حجم تزايد العاطلين المرعب خلال نفس الفترة نتيجة الاسباب السابقة الذكر .   

مشاريع التشغيل

لا تزال برامج تشغيل الشباب والحوار الاجتماعي في موريتانيا غير فعالة و ذات تأثير محدود ، حيث :

أنها تستهدف بشكل أساسي فقط خريجي الجامعات والدورات المهنية الذين يعيشون في المناطق الحضرية .

وتتركز غالبيتها علي التكوين المهني و ريادة الاعمال للشباب العاطل (أي في ناحية العرض) و تهمل بشكل جانب الطلب (خلق الوظائف) بحيث لا نكاد نجد سوي برامج محدودة في مجال تطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة تدخل في اطار الإصلاحات المتعلقة بتحسين مناخ الاستثمار في البلد.

ولا نكاد نجد أي ذكر لتحسين جودة العمل أو تحويل الأنشطة من الطابع الغير المصنف الي المصنف ...الخ رغم الاعتراف بوجود هذه الإشكاليات في غالبية النصوص.

وتشترك كلها في صفة واحدة انها سيئة التصميم والتنفيذ و التقويم، فمثلا: 

علي مستوي التصميم تمت صياغة جميع البرامج تقريبا على اعتبار أن السبب الرئيسي للبطالة هو عدم موائمة التعليم لسوق العمل رغم الاعتراف الرسمي بان وتيرة خلق الوظائف محدودة ولا تتجاوز 30 ألف فرصة سنويا (المركز الوطني لتحليل السياسات) مقارنة مع وتيرة تزايد الباحثين عن العمل!!

وعلي مستوي الاستهداف فبدل منح الشباب غير المتعلم أو ذا تعليم نصفي عربات توك توك أو تسيير حنفيات مياه ...الخ تتلاءم تقريبا مع طموحاتهم ومستوياتهم، يتم منحها لشباب من ذوي الشهادات العليا بالرغم مما قد تسببه من قتل للطموح وتحطيم للكبرياء.

وحتى على مستوي الخطاب يتم توجيه حملة الشهادات العليا للقبول بمهن محدودة الدخل في القطاع غير المصنف!!!

ويظهر العجز الحكومي أمام هذه المشكلة مؤخرا بشكل واضح، فبعد أن تعهد الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني بخلق 100 ألف وظيفة ذات جودة وأدرجها ضمن برنامجه الانتخابي في سابقة من نوعها، تفاجئنا برئيس الوزراء يحاول التملص من هذا التعهد أمام البرلمان بإعلانه ان الحكومة خلقت 45 ألف وظيفة عبر فتح الشكات امام المنقبين عن الذهب!!!! وهو نشاط غير مصنف غالبية المنخرطين فيه يعملون بدون راتب وبدون أي أمن وظيفي. 

كما يظهر جليا مستوي كبير من التخبط في إدارة ملف التشغيل حيث يتم نقله من وزارة الي اخري مع كل تعديل حكومي فبعد أن كانت هناك وزارة للتشغيل والدمج والتدريب المهني (2008) تحولت الي وزارة منتدبة لدى وزير الدولة للتهذيب الوطني (2013) ومن ثم الي وزارة التشغيل والتكوين المهني وتقنيات الاعلام والاتصال (2015) وهكذا ........حتي انتهي المطاف بهذا الملف الحساس الي وزارة الشباب و الرياضة (2020)

ملاحظات و مقترحات

أولا : علي مستوي الرؤية

يجب الاعتراف بالأزمة و إعطاء ملف التشغيل الأولوية المناسبة ضمن السياسات العمومية ، كما ينبغي تغيير العقلية السائدة ان سبب البطالة الرئيسي هو عدم ملائمة التعليم مع سوق العمل نحو رؤية اكثر شمولية  لبقية الأسباب و التي في مقدمتها عجز الاقتصاد عن انتاج وظائف  .

ثانيا:  علي مستوي برامج التشغيل

يجب إعادة التوازن بين العرض و الطلب علي مستوي برامج التشغيل من خلال بلورة مشاريع جديدة في ناحية الطلب (خلق الوظائف )بدل التركيز المطلق علي العرض (تكوين الشباب لشغل وظائف غير متوفرة) .

ثالثا:  علي مستوي السياسة الاقتصادية

اعادة صياغة جذرية للخطط والتوجهات الاقتصادية بشكل تدريجي وتوجيه حصة أكبر من ميزانية الاستثمار للقطاعات الانتاجية التي تساعد على خلق فرص عمل بدل المواصلة في اهدارها في مشاريع بني تحتية تصنف في خانة " الفائض أو غير الضروري "   

وهنا يجدر بالذكر أنه حسب تقارير البنك الدولي فان الاستثمارات في مجالات البني التحتية ( الطرق ، الكهرباء، الموانئ ) خلال العشرية الاخيرة استهلكت حوالي 90 بالمائة من مجموع الاستثمارات في حين لم تحظي القطاعات الاجتماعية ( التشغيل ، الصحة ، التعليم  ) سوي 10 بالمائة .

إن إعادة هيكلة الاستثمارات العامة او جزء منها علي الاقل و توجيهها الي قطاعات انتاجية و صناعية كالصيد و الزراعة و التنمية الحيوانية و السياحة.. الخ شرط لا غني عنه لخلق الوظائف و محاربة البطالة

رابعا :  تنويع الاقتصاد و  تفعيل المشاريع المتباطئة

من الاهمية الاشارة الي ان هناك فرص عمل هامة  قد تشكل متنفسا حقيقيا  عبر تنويع الاقتصاد عن طريق تنشيط عدة قطاعات في مقدمتها القطاع الزراعي حيث لم يتم استغلال المقدرات الهائلة لموريتانيا في هذا المجال حيث لا تزال هناك عوائق هيكلية تعيق تطوره (الإصلاح العقاري ، التمويل ، البحث و التسويق )

كما أن تفعيل بعض مشاريع استخراج المعادن ( مناجم حديد العوج و تماكوط و أسكاف ، يورانيوم بير امقرين ، منجم فوسفات بوفال ، منجم ذهب تيجيريت بالإضافة الي توسعة تازيازت )  بطبيعة الحال فان الحكومة القادمة كشريك هام بإمكانها العمل مع الشركات المتعاقدة تفعيل بعض هذه المشاريع بشكل استعجالي .

من شبه المؤكد ايضا أن الغاز الموريتاني المرتقب سيوفر مداخيل اضافية هامة للخزينة العمومية  لكن العائق الاكبر سيبقي دائما هو مواصلة نفس النهج الاقتصادي في التركيز المطلق علي مشاريع البني التحتية و إهمال الانتاج الصناعي و الزراعي وهو ما سيؤدي حتما الي مواصلة  استفحال البطالة .

خامسا : علي المستوي التنظيمي

بما ان حل مشكل البطالة يتطلب إحداث تغيير جوهري وكامل أحيانا في طبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي فمن البديهي  ضم ملف التشغيل الي وزارة الاقتصاد  أو تسيير الملف من طرف الرئاسة أو الوزارة الاولي مباشرة وجعله أولوية تنموية وطنية إذ يستحيل علي وكالات فرعية تحت وصاية احدي الوزارات التأثير في القطاعات الاقتصادية الهامة أو خلق أي فرص عمل اللهم إلا ما توفره من فرص لموظفيها و أطرها العاملين بها .

كما يجب أيضا انشاء مرصد (يستحسن ان يكون مستقلا) من أجل تقديم بيانات حقيقية وصحيحة حتى يمكن حشد المجتمع والدولة لحل الأزمة، لأن تقديم بيانات غير دقيقة لا يفيد في شيء، بل على العكس يؤدي إلى نوع من الاسترخاء والترهل في مواجهتها.

سادسا : إقرار نظام او صندوق  لإعانة العاطلين ماليا

ان أكبر عائق يمكن ان  يطرح أمام فكرة انشاء صندوق لإعانة العاطلين –علي غرار الكثير من دول العالم – هو عدم وجود موارد لتقديم هذه الإعانات ، ولكن حقيقة الامر لا تتعلق بغياب الموارد وإنما بترتيب الأولويات فمنذ عقود يتم منح الاولوية لمشاريع ثانوية من حيث الجدوائية الاقتصادية و الاجتماعية قبل الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.

وكمقترح يمكن تمويل هذا الصندوق في مراحله الاولي  من العائدات الضريبية علي سعر المحروقات ، بدل تجميعها في حساب خاص من اجل تمويل مشاريع البنية التحتية أساسا 

ختاما : مواصلة تحسين التعليم و ملائمته مع سوق العمل   

كما تحتاج موريتانيا إلى مواصلة و تركيز جهود تحسين التعليم  عبر  زيادة معدلات الالتحاق ،  وتحسين الجودة ، وضمان تسليح القوى العاملة بالمهارات التي تتناسب مع احتياجات أصحاب الأعمال ..

كان الله في عون الأجيال القادمة

 

 

22. مارس 2021 - 12:38

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا