إن السياسة و أساليب ممارستها في موريتانيا و في هذا العصر الذي غشيته أنوار الوعي الطافح المستمد قوته العارمة من انتصار العلم و المعرفة، غير السياسة التي ظلت إلى حين قريب تستمد شرعية تعاطيها من عهر "ظلامية برزخية" ما بين "السيبة" و إرهاصات الدولة الحديثة، و تكاد تعود بها إلى سابق عهود الجاهلية الغاشمة.
فإذا كانت السياسة هي فن الممكن كما يُقال و تعني حسب فلاديمير لينين التعبير المكثف للاقتصاد و شكل من أشكال الصراع والاتفاق، و في فهم ابن خلدون تعني “صناعة الخير العام” الذي هو أمانة وتفويض ومحاسبة، و تعني حسب أرسطو نشاطا إنسانيا يهدف إلى تحقيق الخير العام لجميع أفراد المجتمع، فإنها بكل هذه المفاهيم تكاد تعني “علم إدارة الدولة” الذي ينبغي أن يقترن بالأخلاق وبعنصر الخير، لكن واقعنا الحالي ما زال بعيدا عنها في ظل انخفاض درجة الوعي السياسي والحقوقي والاجتماعي إن لم يكن غائبا تماما بكل أسف.
و إن المتتبع لتاريخ و مسار التعاطي السياسي في دائرة التشكيلات السياسية التي رأت النور ضمن أولى بوادر الدولة الحديثة منتصف الخمسينات من القرن العشرين، لا يستطيع إلا أن يقر بأن هذا المسار قد لبس، بعيدا عن كل التعريفات و المفاهيم التي أسلفنا و مع ضعف الثقافة السياسية والحقوقية وقلّة التأهيل، أثواب قوالب المجتمع التنظيمية التقليدية المتسمة بكثير من الحيف و التباين، فكان من ذلك مثلا أن الزعامات تنسب إلى القبائل و من عليتها دون سائر مكوناتها في السلم الطبقي و الطائفي، في حين أن ما كان يحدث في بعض المرات من شذوذ عن هذه القاعدة كان يجرى على أساس ثابت في الخلفية منه كالطود و بنفس الاعتبارات الموجهة... لعبة أجادها و حاكها ثم أحسن استغلالها المستعمر الفرنسي الذي درس المجتمع الموريتاني بإمعان قبل أن يحكمه بإتقان.
و لإن تبنت تلك الأطر السياسية المتمخضة عن الواقع المستجد في حراكها و أنشطتها مع استتباب الأمر للمستعمر الفرنسي، مفاهيم و قناعات و توجهات نضالية جديدة و مختلفة في الفكر الذي استمدت منه أدركاها ووعيها مع الانفتاح أيضا على وسائل الاتصال و الإعلام التي لم تكن تعرفها و من خلال كذلك الأسفار خارج حيز البلد الترابي، فإن الخلفية النفسية و الاجتماعية ظلت حبيسة القوالب التقليدية مكرسة تخلفا عن ركب الدول المحيطة في قيام دولة القانون و الاستغلال الأمثل المطلوب لكل طاقات الوطن و مقدراته و تسخيرها لبناء الدولة الحديثة التي يسودها الرخاء و تنعم بالحس الوطني المرهف المشترك.. و إلا فكيف بقيت على هذا النحو من التخلف و الضعف دولة مستقلة منذ اثنتين و خمسين سنة و هي من أغنى دول قارتها السمراء و وطنها العربي و عالمها الإسلامي و أكثرها تنوعا في الموارد و أهمها من حيث إستراتيجية الموقع على كوكب الأرض بإطلالتها الكبيرة على المحيط الأطلسي قبالة القارة الأمريكية بمفاصلها الثلاثة الجنوبية و الوسطى و الشمالية، و تزخر بأراضي خصبة يغمرها نهر معطاء و يربطها في تشابك اقتصادي متكامل و مدر مع دول صديقة ثلاثة هي مالي و السنغال و غينيا كوناكري التي تنصب، من أعالي جبال "فوتا انجالون" فوق ترابها مياهه العذبة لتسقي الحرث و تطفئ الظمأ و توطد الصداقة و التعاون و السلم.
إن نظرة متأملة فاحصة إلى تشكيلاتنا السياسية التي لم يشفع لأغلبها ممن يقودها منذ نشـتها مخضرمون، مرور طيف من الوعي المثالي كاد أن يلحم البلد بالوعي العالمي في منتصف السبعينات من القرن المنصرم و قد مر بلمح البصر كالأحجية تاركا فقط بعضا من شعاراته الثورية عالقة مثل الضباب في الأذهان و التي ما كان لها لو استغلت يومها إلا أن تعين في خضم التعاطي السياسي الحاصل بأثواب بالية و أرواح عارية من وهج الوعي الذي انتشر و استشرى في ربوع الدنيا مسقطا من حول الأوطان كل الاعتبارات المتخلفة و معلنا انتهاء الطبقية الحزبية و الزعامات الجامدة التي تجدد لنفسها، في عبثية السرمدية و المطالبة بأحقية القيادة، ولاء منتسبيها الأعمى المطلق.
و لكن يبقى الأدهى و الأمر من هذه الوضعية الخطيرة و المهينة ـ التي تكبح قدرات الوطن و تسحبه بإصرار كتلة جامدة إلى مجهول ليس غائبا بالمرة إلا عن أذهان الغافلين و المتغافلين اللحظيين ـ هو ما يجري من استماتة الشباب و تدافعه بهوس إلى التقليد الأعمى لسكان الحلبة من السابقين الأولين، في شبه جمود ذهني لا يكاد يصدق و في بلد تعلم على الرغم من ذلك أبناؤه في أكثر جامعات العالم شهرة و تخرجوا فيها بأعلى الشهادات و أرفع الدرجات. و لو تريث هذا الشباب قليلا و تمثل قلبا و قالبا معنى قولة زهير بن أبي سلمى الذي كان شعره ينضح كله بالحكمة البالغة و بالفهم العميق لطبيعة النفس البشرية:
لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم
لأدرك أنه إن ظل بهذا المستوى الدوني من الطموح و قاصرا عن الاضطلاع بدوره والعمل على التغيير لبقي الحال، في المحصلة، تعبيرا مقلقا عن وجهين لركود واحد يستحيل معه التصدي للتحديات الجسيمة و قافلة ارتقاء الأمم تمر واثقة من أمامهم غير آبهة بنباح كلابهم.