معرض الثروة الحيوانية في تمبدغة : توفيق في التخطيط وسداد في الاختيار/ محمد يسلم يرب ابيهات

لا تنهض الشعوب إلا بالتغيير الدائم لعقليات أفرادها نحو الأصلح، تبعا لتقدم ورقي المجتمعات والحضارة البشرية؛ ولا تتقدم الدول إلا بالتخطيط المحكم، والتنفيذ الصارم للسياسات التنموية التي ترسمها وتنفذها الحكومات. وترتبط الخطى التي تقطعها كل دولة على طريق النمو، بمستوى طموح الذين يقودونها، وتوفيقهم في اختيار الأولويات، في معركة ضروس، عاتية، لا يخمد لها أوار ؛ ولا يراد لها ذلك. فهي على حدتها، وقساوتا، وما تشهده من سجال، كلما احتدمت، كلما كان ذلك مؤشرا إيجابيا، يدل على حيوية البلد، ورغبته الأكيدة في التقدم، والرقي، والنمو المستمر، والازدهار الأكيد. تلكم هي معركة التنمية. فمعركة التنمية، معركة لا هوادة فيها، ولا يتقن خوضها إلا من صلب عوده من القادة السياسيين النابهين، الذين تخرجوا من مدرسة تدعى حب الوطن، والإيمان بوجوب التضحية من أجل تقدمه وازدهاره.

وفي بلادنا، تعد الثروة الحيوانية من أهم مقومات الاقتصاد الوطني. ولا يخفي ما تلعبه هذه الثروة من دور مهم، فهي تمثل كعائد، 40% من الإنتاج الوطني؛ كما يعمل أكبر عدد من سكان موريتانيا بهذا المجال؛ حيث يكاد يعتبر في الحوضين مثلا، المجال الوحيد المتاح أمام الجميع، وبالتالي تتعاطى له الأكثرية من سكان تلك المناطق.

ولما كانت الثروة الحيوانية تحتل هذه المكانة في الاقتصاد الوطني، كان لا بد من منحها الأولوية في كل مخطط تنموي جاد، يمتاز ببعد النظر، والعمق في التخطيط الاستراتيجي، على المديين المتوسط والبعيد؛ من أجل النهوض به كقطاع، ومن ثم النهوض بالاقتصاد الوطني ككل. 

وتأتي أهمية إعطاء الأولوية للثروة الحيوانية  مبررة من نواح عدة، سنعمل على محاولة استجلاءها، آملين أن تكون دلالة ورمزية رسالة تنظيم هذا المعرض، قد وصلت إلى آذان كل المواطنين. فمعرض الثروة الحيوانية المنظم اليوم في تمبدغة يحمل رسالة قوية مفادها أن قاطرة التنمية الاقتصادية، التي انطلقت بالفعل، سيقودها:

- أكثر القطاعات توظيفا للمواطنين، باعتبار العدد الكبير من المشتغلين به؛

- أكثر مهنة شعبية احترافا وإتقانا، من حيث رسوخها كتقليد وممارسة لدى أكبر عدد من المواطنين.

-الالتصاق الوثيق للأنشطة المرتبطة بالتنمية الحيوانية بالحياة اليومية للمواطنين.

كلها عوامل تبرر حسن اختيار القطاع، كقاطرة لأي نهضة اقتصادية في بلادنا، خصوصا إذا علمنا أن الثروة الحيوانية تمتاز عن غيرها من الثروات الأخرى، كالحديد، والبترول، والنحاس، والذهب، والغاز؛ بكون هذه الأخيرة غير متجددة؛ فخامات كل هذه الثروات التي ذكرنا عبارة عن كمية محدودة، سيتم استخراجها وتنفد؛ أما الثروة الحيوانية فإنها متجددة. وهو لعمرى، فرق كبير، وبَوْنٌ شاسع، يكفي وحده  لتبرير حسن اختيار تنظيم هذا المعرض، في إشارة إلى إعطاء الانطلاقة لتثمين، وتحسين، وترشيد، وتطوير، وعصرنة طرق استغلال هذه الثرة الوطنية المتجددة.

وعلى ذكر التنمية الحيوانية، لا بد من التذكير بالبعد الحضاري العميق، للتنمية الحيوانية كنشاط، وارتباطه الوثيق بالحضارة العربية الإسلامية والأفريقية. فلا تكاد تجد أمة أكثر خبرة بالتربية الحيوانية، وكل ما يتعلق بها من العرب؛ ومن كمال إتقان العرب لها سَمَّوْها " إنتاجا"، فلا يقولون ولدت الدابة، وإنما يقولون "أُنتجت"، وبضم الهمزة، في إشارة إلى عامل التجدد، والديمومة، واستمرارية "الإنتاج" من الحيوان؛ فالدابة تلد، مرة تلو الأخرى، وبوتيرة متفاوتة، حسب كل صنف ونوع على حده.

هو إذا اختيار موفق بجميع المقاييس؛ الحضارية، والعلمية، والاقتصادية، والتنموية.

 أما من ناحية النماذج التنموية، في الدول المتقدمة في عصرنا الحاضر ، فإننا نجد أكبر دولة وأعظها في عالمنا المعاصر، قد بنت نهضتها على ثقافة "رعاة البقر" في الغرب الأمريكي السحيق، فثقافة "الكوي بوي"  و " التوريرو" كلها؛ ذات خلفية تنموية حيوانية بحته، تمثلت في التفنن في إتقان، وتطوير، بل حتى مكننة استغلال الثروة الحيوانية، والمتمثلة في البقر، في الولايات المتحدة الأمريكية.

ويمكن أن نسهب في الحديث، صفحات وصفحات، عن تجارب رائدة في حسن استغلال الثروة الحيوانية ؛ وما أفضت إليه من تقدم وازدهار منقطع النظير؛ كتجربة نيوزيلندا في تربية الأغنام؛ وأستراليا في تربية الضأن؛ وكالتجارب، البولندية، والألمانية، والفرنسية. وعلى ذكر فرنسا، تجدر الإشارة هنا إلى أن معرض الثروة الحيوانية ، الذي ينظم كل سنة في باريس، هو التظاهرة الوحيدة التي لا يسمح رجل سياسة، أو أي فرنسي أصيل لنفسه، بالتغيب عنها. ولا يفوت حضورها أي رئيس فرنسي. وكلنا نذكر قولة ديجول الشهيرة : "إنني لأستحيي من قيادة شعب ينتج أكثر من ثلاثمائة صنف من أصناف الجبن" !! فكم ربوا من الماعز، والبقر، حتى يتمكنوا من إنتاج كل تلك الأصناف؟!!. ونجد فرنسا اليوم، مع أنها دولة صناعية كبيرة، إلا أنها كذلك تحتل الرقم الأول عالميا، في الصناعات الغذائية. وما ذلك إلا بفضل التركيز على تنمية المواشي، والتطوير المستمر للثروة الحيوانية.  

ختاما، وبالمجمل، لقد كان اختيار تنظيم معرض الثروة الحيوانية، كإشارة إلى انطلاق قطار التنمية المستدامة في البلد، اختيارا سديدا، وموفقا إلى أبعد الحدود؛ خصوصا إذا ما أشفع بالتشمير عن سواعد الجد من طرف الجميع، وفهمت الرسالة وتم العمل بمقتضاها. حينها، وبدون أدنى شك ستنعم بلادنا بالرقي والازدهار، وذلك ما يتمناه كل مواطن موريتاني، ويرجوه.

فهنيئا لفخامة الرئيس محمد الشيخ ولد الغزواني، وهنيئا لحكومته، وبالأخص وزير التنمية الريفية فيها؛ على اختيار الثروة الحيوانية كأولوية، وكرافعة للاقتصاد الوطني؛ وتنظيم هذا المعرض الناجح بكل المقاييس.

 

 

1. أبريل 2021 - 10:43

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا