هناك ثلاث جيوب تمثل في حيويتها تكامل أضلاع مثلث العمق الاستراتيجي الموريتاني ،وهي جيوب صنعها التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين والمصير المشترك ،حيث ظلت على الدوام وثيقة الصلة بالأحداث والأفكار والمؤثرات المختلفة بين موريتانيا وهذه الأقاليم في حركة حضارية
لم تعرف التوقف .هذه الجيوب هي أزواد في الشرق والصحراء الغربية في الشمال وفوتا على ضفاف نهر السنغال ،وقد كان من أسوء نتائج المكر الاستعماري زرع حقول ألغام على طول الحدود الرابطة بين موريتانيا المستقلة وهذه الدوائر الحيوية الثلاث التي لامعنى لموريتانيا مزدهرة و مستقرة ومستقلة في غياب علاقات أكثر من جيدة معها ،لكن إرث الاستبداد و التبعية والمكر الاستعماري جعلتنا للأسف الشديد ندفع في كل مرحلة تاريخية إلى تبديد أرصدة القوة الاستراتيجية التي كان علينا صيانتها وتدعيمها ، اتسم الأداء الموريتاني في إدارة ملفات الجيوب الإستراتيجية وما تمثله من أهمية بالغة في الأمن القومي الموريتاني بالارتجال والتخبط وغياب التخطيط الواعي، وتغليب المكاسب السياسية الآنية على حساب المصالح الإستراتيجية الكبرى، وخدمة الأجندة القطرية الضيقة بدل إعطاء العمق الاستراتيجي الموريتاني ما يستحق من رعاية واهتمام. . فمثلا موقف نظام الرئيس المختار ولد داداه – رغم فضله ووطنيته- من قضية الصحراء الغربية لم يخلوا من أخطاء قاتلة ،حيث بدل أن يقتصر الموقف الموريتاني على تحقيق جملة أهداف رئيسية محددة من قبيل تحقيق مشروع موريتانيا الكبرى عبر كسب عقول وقلوب الصحراويين في اتجاه الوحدة الطوعية مع أبناء العمومة في موريتانيا ،وإشعار القبائل والتنظيمات الصحراوية أن الموقف الموريتاني في كل الظروف لن يكون إلا في صالح سكان الصحراء ،فبدل التأكيد على هذه الاعتبارات جاء الموقف الرسمي للنظام الموريتاني في شكل اتفاق لتقاسم الصحراء الغربية مع المغرب من دون استشارة سكان الصحراء ،ثم التورط في حرب مدمرة لامعنى لها ،وكان من الأسباب المسكوت عنها في الموقف الموريتاني – كما هو معروف - محاولة إبعاد المغرب عن حدود موريتانيا عام 1960م ،والإلتفاف على حركة اليسار الموريتاني وربيبتها البوليساريو ومنع قيام دولة بيظانية ثانية في المنطقة ،فكان من الطبيعي أن تكون النتيجة خسارة الصحراء والصحراويين وهامشية الدور الموربتاني في النزاع الذي لايزال قائما إلى اليوم . وفي نهاية الثمانينات حدثت أزمة السنغال كتجلي من تجليات الصدام المؤسف بين نظام الرئيس معاوية و حركة أفلام ،وحدث ما حدث من أخطاء جسيمة في منطقة فوتا على ضفتي نهر السنغال وهي جيب استراتيجي مهم جدا للأمن القومي الموريتاني وتمثل عمقا استراتيجيا ظل على الدوام جسر تواصل حضاري فعال بين موريتانيا والشعوب المسلمة في غرب إفريقيا ،وكان يمكن للإدارة السيئة للملف أن تدفع بالأمور في اتجاهات خطيرة لولا أن الله سلم ،حيث أحجمت السنغال – لحسن الحظ- عن تسليح الفوتيين (الهالبولار) خشية العواقب المستقبلية لخطوة من هذا القبيل على التوازن العرقي داخل السنغال . واليوم نكرر نفس الإدارة الخاطئة مع جيب استراتيجي آخر مهم هو أزواد ،حيث ظل الإهمال التام لهذا الجيب سمة عامة لدى جميع النظم السياسية المتعاقبة ،ولا أدل على ذلك من عدم فتح أي قنصلية موريتانية في كبريات المدن الأزوادية ،وعدم إنشاء أي طريق يربط "النعمة" الموريتانية و تمبكتو مثلا ،ناهيك عن عدم قيام الدولة الموريتانية أو أي جهة شعبية ببناء منشآت تعليمية أوثقافية أو صحية في الإقليم .وإذا تجاوزنا هذا الأمر وأخذنا في تلمس حقيقة الموقف الموريتاني الحالي من قضية أزواد فسنلاحظ عدم استشعار أي مسؤولية اتجاه سكان أزواد ،وغياب فاضح لبلورة موقف سياسي ناضج ومنصف من قضية الإقليم ،وقصر النظر في ملف بهذا الحجم على زواية وحيدة تتمثل في محاربة الإرهاب والتماهي الكامل مع المخططات الغربية والفرنسية بالتحديد في هذا الصدد رغم ما تنطوي عليه من مخاطر جدية على الكيان الموريتاني قبل غيره . لقد بدأ موقف نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز قبل ثلاث سنوات بمحاولة خلق صحوات من قبائل أزواد لمواجهة القاعدة وأخواتها ولاحقا التواصل مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد من أجل ابتزاز نظام الرئيس المالي المخلوع أمادو توماني توري ،ثم انتقل الموقف في طوره الجديد إلى خذلان الأزواديين والانخراط مع فرنسا والإيكواس في التآمر عليهم .لقد كان على النظام الموريتاني أن يتخذ موقفا سياسيا مسؤولا يتمثل في التأكيد على إحترام وحدة التراب المالي لاعتبارات استراتيجية مفهومة ومقدرة ،ولكن في نفس الوقت وبنفس القوة الدعم العلني الصريح للمطالب المحقة لسكان أزواد ،واستنفار الدبلوماسية الموريتانية من أجل شرح حقيقة الموقف الأزوادي والحلول الممكنة لهذا المشكل ،ورفض الخلط المتعمد بين قضية أزواد العادلة والموقف من الجماعات العنفية، وإيثار الحلول السياسية والرفض القاطع للتدخل الأجنبي . حيث كان موقف من هذا القبيل لو تم اعتماده سيجعل موريتانيا لاعبا رئيسيا في حل القضية الأزوادية ووسيطا نزيها ومقبولا من جميع الأطراف . لكن الموقف الموريتاني في الملف الأزوادي اسقط من حساباته هذه الاعتبارات الأخلاقية و الإستراتيجية و جاء معبرا عن وضعية الارتهان للتحالف مع فرنسا وما يفرضه من التزامات ،ومهتما بصرف أنظار الشارع السياسي الموريتاني نحو وضع متفجر على الحدود الشرقية مما يضمن له محاصرة الحالة الإسلامية والالتفاف على الربيع الديمقراطي الآخذ في التجذر وإدامة نفوذ العسكرتاريا الحاكمة ،وهي مزايا حقيقية مفيدة للنظام القائم في الحسابات السياسية المباشرة،لكنها خطيرة في المحصلة الإستراتيجية النهائية بالنسبة لموريتانيا، وقد تتحول إلى كابوس مفزع للنظام في حال استمر الضغط الفرنسي عليه من أجل تغيير موقفه الحالى المعلن في اتجاه الدخول المباشر في الحرب على الأزواديين ،حيث لا يستبعد أن يتكرر سيناريو العاشر من يوليو من جديد، هكذا تقول الخبرة التاريخية . إن مشكلة الإدارة الخاطئة لهذه الملفات تعود بالأساس إلى غياب الديمقراطية والعمل المؤسسي ،واستفراد الأحكام الفردية باتخاذ القرارت المصيرية من دون مشورة الشعب ومؤسساته، وفي ظل غياب مزري لرؤية إستراتيجية موريتانية واضحة المعالم لا تتغير بتغير الأنظمة ولايستطيع أي حاكم القفز عليها .الشيء المقلق أنه لايلوح في الأفق أننا في طريقنا للعلاج الجذري للأدواء السياسية والمؤسسية المسببة لهذا النمط من الإدارة السيئة للملفات الإستراتيجية أي أننا سنظل ندفع فواتير باهظة قد تكون محصلتها النهائية خطيرة على مستقبل الكيان الموريتاني نفسه.