حين تأملت تاريخ الأمة الإسلامية لاحظت أن الكثير من المعارك التي حصلت في العصور القديمة كانت ترجع إلى الخلاف حول قراءة المفاهيم وتفسيرها؛ لذا اخترت أن أقف مع بعض المفاهيم لدى شيخنا عبد الله بن بيه لأننا عندما نقف مع قراءة المفاهيم سندرك حقيقة العالم الذي نسبح فيه والطريق الذي نسير عليه، وبعد معرفتنا لذلك يمكننا أن نحكم على الطريق؛ أهو طريق صواب أم طريق خطأ!؟؟
لنبارد بالرجوع إلى الصواب قبل فوات الأوان.
إن شيخنا العلامة عبد الله بن بيه يخوض معركة ضد الغلاة والمتطرفين سلاحه فيها الحكمة التي تفضي إلى حقن الدماء، فهو المجتهد المعاصر الوحيد الذي لم يفت يوما بتكفير أحد أحرى أن يفتي بهدر دمه؛ لذلك اهتم بتحرير محل النزاع داخل المفاهيم؛ فنادى الجميع قائلا:
."دعونا نؤصل المفاهيم كي نصل إلى حلول"
من هنا نستنتج أن أهم سلاح يواجه به الغلاة والمتطرفون هو ضبط المفاهيم وتنقيحها وإزالة الغموض واللبس الذي يكتنفها، ولا يتأتَّى ذلك إلا عن طريق تأصيلها؛ لذا كرس الشيخ وقته في ذلك، وسنقتصر في هذا المقال على ثلاث مفاهيم شائكة؛ وهي بمثابة قواسم مشتركة تجمع بين عامة الناس بمختلف انتماءاتهم العقدية وألوانهم العرقية، وهذه المفاهيم هي:
● الكرامة الإنسانية: يبين الشيخ من خلال هذا المفهوم أن البشر بمختلف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرمهم الله بنفخة من روحه في أبيهم آدم، ويؤصل ذلك بالاستدلال بقوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ))؛ فالكرامة الإنسانية إذن سابقة في التصور والوجود على الكرامة الإيمانية.
ومن هذا المنطلق علينا أن نحترم الجميع وأن نحفظ له حق الإنسانية الذي منحته له الكرامة دون أن ننال منه أو نتجاوز في التعامل معه.
وفي إطار هذه القواسم التي تجمع بين الناس بصفة عامة يحرر مفهوما جميلا نحن بحاجة إلى الوقوف معه، وقد وقف الشيخ معه وقفة سَبْرٍ وتَقْسيم، وهو:
● التعددية الدينية: يوضح الشيخ هنا أن التعدد والتنوع من آيات الباري سبحانه وتعالى، ويؤصل ذلك بقوله تعالى (( وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَاءَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ))
وفي هذا الصدد يقول إن الإسلام ينظر إلى البِيَع والصوامع والكنائس بأنها مقدسة لا بأنها دور عبادة يجب هدمها كما يظن بعض المتطرفين، ويستدل على ذلك بقوله تعالى (( وَلَوْلَا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً))؛ فالإسلام هنا نظر إلى الديانات كلها نظرة تقديس وانسجام وتكامل؛ فالتنوع إذن مفيد كما يقول الشيخ عندما يخدم التكامل.
وفي رحم التعددية يبزغ لنا قمر الاختلاف؛ نسميه قمرا لأن الاختلاف محمود ومبدأ جميل وُصِف بصفة المدح في القرآن كما يقول الشيخ مؤصلا ذلك بقوله تعالى (( فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتِلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَّمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَالِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ((
الاختلاف هنا يعتبر ثراءً وانسجاما؛ وبالتالي يصبح رحمة، بخلاف ما إذا كان إدبارا وتقاطعا فهو خلاف وقد يكون نقمة؛ لذا علينا جميعا أن نسير في نهج واحد؛ لنؤمن الأوطان ونحافظ على كياننا في ظل الاختلاف بعيدا عن الخلاف.
وعند حصول الاختلاف أو الخلاف لا ينبغي لنا أن نرد بالبندقية التي تحمل الموت للشعوب والدمار للإعمار، بل نرد بالكلمة الطيبة التي تحمل الأمل وتغرس الحب والسلام عن طريق الحوار، ومن هذا المنطلق أخرج الشيخ مفهوم الحوار فتحدث عنه قائلا:
● الحوار واجب ديني وضرورة إنسانية؛ وهو من أصل الدين ومن مقتضيات العلاقات البشرية؛ لذا قال تعالى (( وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ)) وقال (( وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))، وهنا يورد الشيخ تنبيها جميلا حول تفسير "إلا الذين ظلموا منهم" قائلا إن التلمساني قال إن "إلا" هنا بمعنى الواو؛ فيدخل بذلك في الحوار الجميع حتى الذين ظلموا منهم، والحوار متداخل مع الاختلاف؛ فالمحاور يحترم الاختلاف ويؤمن بوجوده ويتقبله؛ فإذن لا بد من الحوار لنصل إلى تفاهم ونعيش بسلام.
إن هذه المفاهيم توضح لنا كيفية العلاقة بالآخر حتى ولو كان ممن يختلف معنا في المعتقد أو الانتماء العرقي؛ لذا علينا أن ندرك دوما أن هناك كرامة تجمع بين الجميع وهناك تعددية أقرَّها الإسلام وكرسها وحافظ على محتوياتها؛ وهناك طريق للتعارف والتقارب بعيدا عن التقاطع والتدابر هو "الحوار".
كما أنه يجب علينا أيضا أن ننتبه إلى إزالة اللبس عن مفهوم آخر راح ضحيته الكثير من الشباب الذين ابتُلوا برصيد من الغلو والتطرف هو مفهوم "التمذهب" الذي يقول عنه الشيخ إنه ضرورة للضبط دون أن يؤدي إلى تعصب، وأما إذا أدى إلى تعصب فإنه يصبح مقيتا؛ ضرورة للضبط لأنه يضبط الفتوى ويضبط التفكير والاستنباط؛ والضبط والاستنباط هما وظيفة أصول الفقه.
خلاصة القول أن الشيخ اهتم بتحرير محل النزاع داخل المفاهيم وإزالة اللبس عنها وتأصيلها؛ لأنه يعلم أن أغلب المعارك عبر التاريخ كما أسلفنا انطلقت شرارتها من خلال المفاهيم وقراءتها وتحريف معانيها؛ فإذن نحن نخوض معركة داخل تحرير المفاهيم والمصطلحات وتجزئة النصوص التي يأخذ منها الناظر أحيانا جزءا دون الجزء الآخر، فعلينا أن نحرر المفاهيم عن طريق الحوار المثمر وأن نقرأ النصوص قراءة كاملة تبدأ بالكليات لنُحاكِم في ضوئها الجزئيات دون أن نهملها؛ فنصل بذلك إلى حلول فعلية تكون سببا في نشر السلام داخل الأمة بدل الحرب التي لا تحمل غير القتل والتشريد والهدم.
إنني اخترت المفاهيم الثلاثة "الكرامة _ التعددية الدينية _ الحوار" لأبين للشباب من خلال تأصيلها لدى الشيخ أننا لسنا في مواجهة حربية مع غيرنا وليست لدينا تصفية حسابات مسبقة، بل هناك قواسم مشتركة تجمع بيننا لها أصل في نصوص الوحي، ولها حظ من التعضيد العملي لدى السلف بدءا بالقرون المزكاة وما بعدها، واخترت التعرض إيحاءً لمصطلح التمذهب في الأخير لأوصل من خلاله رسالة إلى الشباب الذين يسبحون في عالَم التمذهب المقيت والأدلجة المظلمة لعلهم يستيقظون من سبات نومهم العميق.