يحار المرء حين يتأمل أحوال الطغيان و وقائع التجبر خاصة عندما يمعن النظر في العلاقة بين الفرد الطاغي وزمرته القليلة وبين جموع المستعبدين المستذلين كيف أمكن للقلة الظالمة التي لا سند لها من حق دين ولا منطق عقل أن تتمكن من رقاب الجموع الهادرة والأعداد الوفيرة تذيقهم الخسف والهوان وأنواع العدوان نفسيا وبدنيا وتستحل ما شاءت من مصائرهم وحقوقهم وأموالهم.
وقد يتراءى للكثيرين أن سبب ذلك هو تفرد الشرذمة الطاغية بوسائل القوة وعوامل المنعة وإخضاعهم بها للكثرة ترهيبا واستعمالا حتى يستجيبوا لرغباتها وينصاعوا لأوامرها، على اعتبار أن القوة الباطشة تميت كل دوافع المقاومة والممانعة نفسية ومادية حتى لا يبقى أمام الجموع إلا الإذعان للطاعة والصبر على حال الهوان تجنبا للبطش وإيثارا لنيل السلامة على مناعة الجانب.
لكن التأمل المتأني الذي تشهد له تجارب التاريخ وحقائق السنن الكونية، وتعضده قواطع نصوص الوحي وسواطع آراء الحكماء أن حقيقة علاقة الإخضاع والاستتباع قائمة على "تفرد الكثرة بالضعف" أكثر من كونها قائمة على "تفرد المتجبرين بالقوة" وأنها كامنة في رضا المسحوقين بالهوان أكثر مما هي كامنة في شهوة الاستعلاء والسيادة عند الظالمين.
نعم قد يكون الظلم من شيم النفوس التي لا تنفك عنها إلا عند عدم القدرة عليها، لكن الصحيح أنه ما استشرى الظلم على هذا الاتساع إلا بسبب تغاضي الناس عنه في صغائر أمورهم وسكوتهم للظلمة عليه في بدايات أحوالهم.
فيمكن مثلا تفهم تفرد الحكام الظلمة بأحوال الحكم ومصائر البلاد والعباد وقد تغلبوا على السلطان وامتلكوا عوامل الغلبة، لكن أن ينتقل ذلك إلى ظلم الناس والتعدي على حقوقهم وأموالهم وحرياتهم فهذا لا يمكن أن ينشأ عن قوة متجبر، وإنما هو ناشئ عن شهوة ظلم قد تعن للحاكم أو صاحب القوة فإن قابلها من جانب المظلوم ذل ورضا بالضيم ونفسية انهزامية تؤثر السلامة النفسية والبدنية من أي خدش تحول مع الزمن إلى حال طبيعية وعلاقة قوة وضعف يصعب الانفكاك منها.
ويمكن التدليل على هذا التفسير بعدة أمور:
أن الظالم قد يملك من القوة والتحكم في الأفراد ما يجعلهم ينقادون لرئاسته لكنه لا يملك ما يخضعهم أفرادا وجماعات لظلمه وتعديه إذا امتنعوا وتأبوا فلا هو يستطيع ذلك ولا محاولته له تخدم ملكه والأساس المعنوي الذي يبنيه عليه.
الأمر الثاني: أن الواقع أن الظلم المعتمد على القوة والحق المعتمد على نفسه ما تجابها إلا وغلب الحق.
الأمر الثالث: هو أنه إذا كان التبرير المقدم للرضا بالظلم هو خوف التعدي والحرص على السلامة فإن مآل العواقب صائر إلى عكس فإن الأفراد والجماعات يسكتون تجنبا لمكروه صغير من سلب حق أو اعتداء على بدن ثم يدفعون في الأخير أثمانا أغلى أنفسا وأموالا سواء كان ذلك عندما يصحون ويثورون أو حتى إذا استمروا في مرقدهم وغيبوبتهم إذ يستمرئ الظالم حتى يصل به الغي أن يستحل القتل تشفيا وتلهيا.
خيوط الوعي
برقت هذه الخاطرة بذهني وأنا أتابع ما تمخضت عنه تلك المعركة الحضارية التي خاضتها الثلة الشريفة من الأساتذة ضد قرار إداري ظالم استطاعوا في الأخير رده دون سلاح اعتمدوا عليه غير التمسك برفض الظلم والإصرار على ذلك مهما كلف.
إنني أنظر لنتيجة هذه الوقفة من أفراد ضد قرار إداري عادي لا على أنها انتصار نقابي أو تصحيح لتصرف خاطئ، بل على أساس أنها فعل حضاري يحيل إلى تشكل وعي جديد في المحافظة على الحقوق يقضي على العوامل المغذية لاستمرار الظلم وانحراف السلطان، ولكن بصورة هادئة وتراكمية لا تؤدي إلى الهزات واختلال المنظومات العامة، إنها ثورة في الممارسة وفي الوعي الحضاري تبني ثقافة الحقوق وتلقن مبادئ العدل ولا تهدم من منجزات الأمم، وتُجنب الهزات التي تجلبها الثورات العارمة حين يبلغ الظلم مداه، وتنفد طاقات الصبر في الأنفس "الحليمة"
لنقارن مثلا بين القيم التي يحيل إليها هذا السلوك وتأثيرها في النفسية العامة لسير الأجهزة الإدارية وفي وعي المواطن لعلاقته بالدولة وتقديره لنفسه وبين القيم المقابلة التي تحيل إليها أنواع أخرى من السلوك قد يلجأ إليها الموظفون حين ما يتعرضون لظلم إداري مثل الرضوخ للقرارات التعسفية أو استجداء المديرين أو اللجوء للوسطاء أو غير ذلك.
يقال إن التاريخ دائما يسجل الأحداث الكبيرة التي تأتي دفعة واحدة وتوقف مسارا وتطلق آخر، لكن تلك الأحداث تسبقها دائما أحداث صغيرة ترسم خيوط حبكة ذلك المسار شيئا فشيئا غير أن "التاريخ الأصم" لا يفطن لتلك الأحداث حتى تأتي الحادثة المدوية فيسمع ضجيجها، فتحية للثورات الصغيرة، وتحية لرجالها الكبار ولو كان الأمر بيدي لجعلتهم عنوان مرحلة تاريخية.