رؤساء حكموا البلد دون ضجيج أو منة على الشعب / محمد لخليفه محمد أحمد

استطاع الرئيس المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله أن ينشأ الدولة الموريتانية من العدم، وفي ظروف قاسية وموارد شحيحة وظرفية دولية غاية في الحساسية.

ففي يوم إعلان الاستقلال؛ لم نكن نمتلك طريقًا سريعًا واحدًا ولا مطارا دوليًا، ولا مستشفى وطنيًا، ولا مصنعا ولا عملة وطنية، ولا جامعة ولا إذاعة ولا تلفزيونا، ولا جيشًا وطنيًا ولا إدارة إقليمية، ولا أي شيء من مقومات الحياة، بل كنا مجرد صحراء قاحلة وشاسعة وشعب قليل العدد من البدو الرحل والمزارعين التقليديين، ولم نكن ساعتها نؤمن بالمدرسة الجمهورية، ولا بأهمية التعليم العصري، ولم نكن نؤمن بالدولة وقوانينها، ولم نكن نعرف النظام الديموقراطي.

الفرنسيون لم يعمروا هذه البلاد ولم يستثمروا فيها أي شيء، لأن موريتانيا بالنسبة لهم كانت مجرد صحراء لا تصلح للسكن، وإنما كان الهدف من استعمارها هو ربط المستعمرات الفرنسية بين شمال وغرب القارة الأفريقية.

المختار.. 20 عاما من الحفر في الصخر

وبناء على ذلك فقد وجد الرئيس المؤسس نفسه في ورطة كبيرة وتحد بالغ الصعوبة بين نار الغيرة على وطنه؛ وأهمية أن ينشأ كيانا مستقلًا بين كيانات قوية كالجزائر والمغرب من جهة، والسينغال من جهة أخرى، وبين شح الموارد وقلة الإمكانات وغيرها من التحديات، فشحذ الهمة وعقد العزم وبدأ مسيرة الألف ميل، فشق الطرق وأنشأ المباني الإدارية والمستشفيات والمدارس، وشرع في إنشاء جيش يحمي الوطن والمواطن، وصال وجال في عموم التراب الوطني يشرح لمواطنيه أهمية مشروع الدولة الموريتانية وحاجتها الماسة لجميع أبنائها، وهكذا فقد نجح المختار رحمه الله في صنع المعجزة في أقل من عقدين، فأصبحت موريتانيا دولة ذات سيادة وممثلة في الأمم المتحدة والجامعة العربية، رغم الصعاب التي واجهت ذلك الانضمام، وأصبحت البلاد كذلك في عهده عضوًا فاعلًا في الاتحاد الأفريقي، واستطاع بفعل ديبلوماسيته الهادئة أن يترأس منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1971م، هذا فضلا عن الإنجازات الكبيرة التي قام بها في ظروف اقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

- بناء العاصمة نواكشوط (بعد كاع)

- اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد سنة 1975م

- تأميم ميفرما (سنيم حاليًا)

- إنشاء شركة سوكجيم 1975م

- إنشاء ميناء نواكشوط المستقل

- إنشاء مطار نواكشوط الدولي، وكذلك مطارات النعمة وكيهيدي وتجكجة وأطار ونواذيبو

- بناء مركز الاستطباب الوطني، وتزويد عواصم الولايات والمقاطعات بمستوصفات

- تشييد الطرق وعلى رأسها طريق الأمل التي ربطت معظم مدن البلاد بالعاصمة

- إنشاء العملة الوطنية

- إصدار مرسوم الحد الأدنى للأجور سنة 1961م

- إنشاء صندوق للعلاوات والضمانات في مجال حوادث الشغل وأمراض العمال.

هذا كله قليل من كثير، ورغم ذلك فقد اتصف ولد داداه بالبساطة والابتعاد عن المظاهر السلطوية، حيث عاش وهو رئيس في منزل بسيط لا يتعدى ثلاث غرف، وعندما أعلمه الملك الحسن الثاني بالتخطيط للانقلاب عليه قبل ستة أشهر من وقوعه، لم يكترث لذلك ولم يعلن حالة الطوارئ؛ بل بقي هادئا يسير أمور البلد حتى تم الانقلاب عليه في يوليو سنة 1978م.

هيدالة.. رئيس صارم ومنجز

وبعد عامين من الشد والجذب داخل صفوف قادة الانقلاب على الراحل المختار ولد داداه، تسلم الرئيس السابق محمد خونه ولد هيداله زمام الأمور، حيث تولى في 4 يناير 1980م رئاسة اللجنة الوطنية للخلاص الوطني، وقد تميز حكمه بالصرامة والقوة، وكانت فترة حكمه قصيرة لكنه هو أيضا شيد الطرق وبنى المصانع والمدارس وسن القوانين الهامة، وقام بالكثير من الإنجازات، نذكر منها على سيبل المثال:

- إلغاء الرق بقرار شجاع وتاريخي

- إنشاء أول شركة للصيد وتسويق السمك في موريتانيا

- وضع حجر الأساس لجامعة نواكشوط

- إصدار قانون الإصلاح العقاري

- إصلاح قطاع الصيد والتصنيع

- إنشاء صندوق وطني للتنمية

- تطبيق الشريعة الإسلامية

- إنشاء هياكل تهذيب الجماهير

- رفض التعامل مع مؤسسات النقد الدولية التي كانت تسعى لخفض قيمة الأوقية بنسبة 30%.

- تشييد سد فم لكليته.

لم يعرف عن الرجل جمع المال وتكديسه؛ بل كان زاهدا متعففا، وبقي في الحكم حتى 12 ديسمبر 1984، حيث تمت الإطاحة به في انقلاب من طرف قائد الجيش آنذاك العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع

معاوية.. عهد من الاستقرار

في حقبته بدأت موريتانيا مرحلة طويلة من الحكم المستقر الذي شهد هو الآخر الكثير من الإنجازات التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، والتي نذكر منها على  سبيل المثال لا الحصر:

- كهربة معظم الولايات والمقاطعات في عموم البلاد

- تشييد الطريق الدولي نواذيبو- نواكشوط –روصو، وهي الطريق التي ربطت موريتانيا بالمغرب من جهة، وبغرب إفريقيا من جهة أخرى.

- تشييد طرق صنكرافه- تجكجة، وكيهيدي- بوكي

- إنشاء مشروع دومسات للاتصالات الذي غطى 13 مدينة لأول مره في تاريخ البلاد

- تزويد 220 قرية بالمياه الشروب عن طريق التمويل الياباني

- بناء أكثر من 600 فصل دراسي و105 مدرسة

- إنشاء شركة لصيانة الطرق  ENER

- إنشاء شركة ATTM

- الإعلان عن إنشاء نظام ديموقراطي تعددي في البلد، وتنظيم أول انتخابات رئاسية سنة 1992

- إنشاء قانون يسمح بالأحزاب السياسية لأول مرة في البلاد

- إجراء الانتخابات البلدية في عموم التراب الوطني

- إنشاء انتخابات تشريعية

- إنشاء انتخابات مجلس الشيوخ

- تشكيل أول حكومة مدنية، ونهاية حكم الحزب الواحد

- إصلاح الحالة المدنية، وإنشاء البطاقة الوطنية غير القابلة للتزوير ضمن سلسلة إصلاحات طالبت بها المعارضة آنذاك ممثلة في حزب UFP بقيادة محمد ولد مولود.

لقد قام ولد الطائع بالكثير من الإنجازات، وملكَ البلاد؛ حيث خضع له شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، فتغنى به الجميع، ومدحه الشعراء وأصبح الآمر الناهي والحكم "العدل"، فلا راد لقوله ولا مناهض لرأيه، وفي غمضة عين خرج من السلطة في انقلاب سنة 2006م، ولم يعد لبلده إلى اليوم !، وبالكاد يذكره ذاكر، وهو الذي حكم البلاد لمدة عشرين سنة.!

نعم خرج ولد الطائع من حكم البلاد ولم يعرف عنه جمع المال، بل كان جل تركيزه هو المحافظة على حكمه.

ولد محمدفال.. فاتح عهد الديمقراطية

شهدت البلاد بعد ولد الطائع الكثير من الشد والجذب خلال المرحلة الانتقالية في عهد الراحل أعلي ولد محمد فال الذي تميزت فترته بالعديد من الإنجازات رغم أنها لم تتعد السنتين، ونذكر منها على سبيل المثال، تنظيم أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ البلاد، وانتخاب أول رئيس ديموقراطي في الوطن العربي، وإنشاء اللجنة المستقلة للانتخابات، وإنشاء المفوضية العامة للدولة،  وإرجاع حصة موريتانيا من النفط من الشركة الاسترالية "وود سايد" بعد معركة قانونية شرسة، أوضحت قوة شخصية الرجل وصرامته.

سيدي.. انجازات رغم ضيق الوقت

وضع ولد محمد فال موريتانيا في الأضواء، وأصبحت مثالًا يحتذى به ديمقراطيا، ما مهّد الأرضية لخلفه المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي بدأ مشواره باجتماع نادي باريس الذي كان ناجحا بكل المقاييس، والتزم الممولون فيه بتقديم مبلغ ملياري دولار لإنعاش الاقتصاد الموريتاني، لكن الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لم يجد الوقت الكافي لتطبيق برنامجه الانتخابي المتمثل في العمل على محاربة الفساد، وحماية الحريات، ومحاربة الفقر، وإنهاء الرق، وتحقيق العدالة والوحدة الوطنية بين كافة أطياف الشعب الموريتاني، فقد كانت مدة حكمه لا تتعدى السنة، لكنه مع ذلك أنجز الكثير من الأمور الهامة رغم الظروف الاقتصادية العصيبة التي وجدها أمامه، والتي تمثلت خاصّة في الجفاف، وتراجع آمال إنتاج النفط الذي كان الجميع ينتظره.

جسد ولد الشيخ عبد الله مطالب الانفتاح على المستويين السياسي والمؤسسي، فتم الانفتاح على المعارضة وتمكينها من القيام بدورها، والتقى بانتظام مع قادتها، كما قام بتشكيل أول حكومة وحدة وطنية متعدّدة الأحزاب منذ مطلع الستينات، وقام بإصدار قانون مكافحة العبودية، وقانون الشفافية في الحياة العامّة، وقام باستكمال تنصيب المؤسسات الدستورية والنأي عن التدخل في الشأن القضائي، كما قام بتمكين البرلمان من لعب دوره التشريعي والرقابي دون تدخل من طرف الحكومة أو الرئاسة.

أما على الصعيد الاجتماعي فقد قام بحل قضية الإرث الإنساني، وتخصيص 4 ملايين دولار لدمج العائدين، وإطلاق برنامج التدخل الخاص لمواجهة الغلاء المعيشي، كما تنازل هو وأعضاء حكومته عن 25% من رواتبهم لمساعدة السكّان؛ في خطوة لاقت استحسان الجميع آنذاك.

وعلى الصعيد الاقتصادي قام بإعداد برنامج تنموي مقدم للممولين، حصل على 2.1 مليار دولار لدعم برنامج الاستثمار الوطني الموريتاني خلال السنوات 2008 إلى 2010، ومليار دولار من البنك الدولي لدعم مشاريع الإصلاح الاقتصادي وتطوير البنية التحتية.

أطيح بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا سنة 2008م إثر انقلاب عسكري قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز، وقد قاوم سيدي الانقلاب؛ ولم يرض بالأمر الواقع متحملا السجن ثم الاقامة الجبرية، وساندته في ذلك الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية إلى حين اتفاق داكار.

ألقى ولد الشيخ عبد الله في 27 يونيو 2009 خطاب الاستقالة الشهير، وخرج من المشهد نهائيًا حتى توفي رحمه الله، ولم يعرف عنه جمع المال، بل كان رجلًا متصوفا نزيهًا طيبًا.

انجازات دون ضجيج

اليوم يطل علينا من يتحدث عن شرعية الإنجازات، وكأن الإنجازات حصرية ومفصلة على شخص واحد! ولو كانت الإنجازات تعطي لأي رئيس الشرعية، لما خرج الرئيس المؤسس المختار ولد داداه من حكم البلاد، ولما خرج ولد هيداله، وولد الطائع، وأعلي وسيدي؛ ولما وصلت لعزيز، لكنها سنة الحياة، فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

وهنا اقتبس فقرة من خطاب فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، تلك الفقرة التي تلخص معنى بناء الدول: (أماأنا فلا أقول  ولا يمكنني أن أقول، أن كل من حكم البلاد كان مخطئا بالمطلق، فلو كان الأمر كذلك؛ ما كان لنا وطن يمتلك مقومات الدولة، وبالمنطق نفسه، لا أقول إنه كان مصیبا بالمطلق، إذ لو كان الأمر كذلك، ما كنا لنلحظ مكامن الخلل ومواطن النقص التي ھي في الواقع صفة ملازمة للعمل البشري، لكنني أفترض فیھم جمیعا حسن النیة والوطنیة، وأقول إنھم في فترات معینة وظروف معینة – لا يتحكمون في أغلبھا – اجتھدوا فأصابوا في مواطن، ولھم أجر الاجتھاد وأجر الصواب، وأخطأوا في مواطن ولھم أجر الاجتھاد، ولھم العذر بالنظر إلى فترتھم وظروفھم والمحیط الذي تحركوا فيه ما يجب الاعتراف به، ھوأن كل واحد منھم وضع لبنة ما، بحجم ما، لتشییدھذا الصرح الذي لا ينتھي العمل فیه،وأعني به إقامة دولة قوية تسعد مواطنیھا، وتدافع عن حوزتھا الترابیة وتحتل مكانتھا بین الأمم). انتهى الاقتباس.

لقد وضع كل رؤساء موريتانيا لبنة في تاريخ هذا البلد رغم المآخذ على فترات تسييرهم، لكنهم خرجوا دون حسابات بنكية خارجية، ودون ارتباط أسمائهم بالحقائق والصناديق.

لقد شيدوا مشاريع دون منة على أحد، وخرجوا دون أن يتصورا أن ما قدموه كان من جيوبهم الشخصية وليس من أموال الشعب وللشعب، ولم يتركوا مديونية خارجية تجاوزت 105%، ولم يخلد التاريخ أن اقتصاد العمولات كان مزدهرا في فتراتهم، ثم خرجوا دون صراخ.!

 

بقلم: محمد لخليفه محمد أحمد

مستشار رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية المكلف بالإعلام

20. أبريل 2021 - 13:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا