المكان عنصر لاصق بوجدان ساكنيه، وجزء من حياتهم التي لا تفارق ذاكرتهم، فهم يتذكرونه في كل حين، ويتأسفون على الرحيل عنه، ويدعون له بالخير العميم كل ما مر أحد منهم به، حتى ولو كانت له معهم محن أدت إلى هجرانه واستبداله بغيره، إلا أنه مع ذلك يبقى ارتبطاهم به حتى قال فيه شاعرهم:
بلادي وإِن جارتْ عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإِن ضَنُّوا عليَّ كرامُ
وانطلاقا من هذا التأسيس، نعتقد أن المكان أو البلد كما تقدمه بعض المعاجم، يعتبر من أهم ركائز تثبيت ثقافة البلد لما يحمله من رموز ثقافية في ميادين، تتلخص في حقول معرفية متعددة كالشعر، والقصص، والأمثال، والسير، وغيرها، وهذا ما أدى بالعلماء العرب، أن يؤلفوا كتب البلدان لجمع تراث أقوامهم، لا بل الأقوام المجاورة لهم، وما وصل إليهم من أخبار الشعوب الأخرى، فكان معجم البلدان لياقوت الحموي من أوسع تلك المعاجم، وجاءت قبله بعض المعاجم المتخصصة، مثل: بلاد العرب، للُغْدَة الأصفهاني، ومعجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، للبكري، ولم يترك اللغويون معاجمهم دون ذكر لكثير من البلدان في الجزيرة العربية، والأماكن المجاورة لها، لا بل قد تجد المكان في كثير من شروح الشعر العربي، نتيجة لأن الشعراء هم المصدر الأول للمكان في تراث العرب.
نقول هذا كله لنصل إلى أن بلاد شنقيط تحتاج إلى تأليف معجم لها يلم شتات ثقافتها المبثوثة في أشعار شعرائها الذين عاشوا في أماكن مختلفة، فذكروا تلك الأماكن وأنشدوا فيها أشعارا، وحكوا قصصا، وذكروا أمثالا، وكتب البعض مقامات، وهذا غير مقتصر على الشعراء، بل إن علماء البلد شاركوا في تثمين المكان، وذكروا حوله الحكايات، وسموه في نهاية مؤلفاتهم، مثل ما نجد عند بعضهم حينما ينتهي من عمل علمي معين يقول أنهيت العمل في الوقت الفلاني وفي المكان الفلاني، ولا نعدم الأمثلة على ذلك.
وعلى هذا الأساس نعتقد أن مؤسسة علمية يجب أن تنهض بمشروع علمي ضخم، تؤلف من خلاله معجما لبلاد شنقيط، وتدعو له المتخصصين الجادين في معرفة تراث هذا البلد، شأن هذا كله شأن المشاريع الكبيرة التي تقودها المؤسسات العلمية مثل: موسوعة أعلام العرب والمسلمين، التي شارك فيها كثير من مثقفي الوطن، فعليهم النهوض ببعض الخصوصيات الثقافية كالذي نسعى إليه من هذا المقال.
إننا نعتقد أن مؤسساتنا العلمية يجب أن تبرمج ضمن خطواتها العلمية مثل هذه الأعمال العلمية الكبرى التي تتطلب عملا ضخما، وجهدا بشريا كبيرا، وقدرة مالية وفيرة، ووقتا طويلا، فهذا النوع من المشاريع الكبرى، هو لمُّ شمل الثقافة ولابد له من مؤسسة كبرى تضمنه وتحتضنه حتى يصل إلى هدفه المنتظر منه.
إن هدفي من هذا المقال هو أن ألفت النظر كما قلت إلى إكمال بعض التجارب في ميدان الأماكن كما هو الشأن في كتاب محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري رحمه الله: الإعلام بالأماكن والأعلام، فهي بادرة رائعة من ذلك العالم الفذ الذي بدأ عملا طريفا تحتاجه بلاده، فعلينا أن نكمله بتأليف ما لم يذكره من بلاد شنقيط، ونستشهد على ذلك بما ورد من الأشعار، والقصص وغيرها كما ذكرنا سابقا.
وتطبيقا لذلك أورد مثالا على ذلك ويتعلق الأمر بذكر المكان في شعر عبد الله بن سيدي محمود، مما ذكره سيدي عبد الله بن انبوج في ترجمة ابن بون، حيث قال:
حَدَتْ حُدَاةُ بَنِي يَحَيى بنِ عُثْمَانَا إِبِلِي بِزِيزٍ فَزَمُّـــــــورٍ فَوَارَانَا
وَإِنْ بَقِينَا حدتها غَيرَ خَائِفَــــــــــــــــــةٍ حُدَاتُنَا بَينَ إِدْلَيمٍ وَدَامَــــــــانَا
زيز: ذكره امحمد بن اطلبه في شعره، ضمن قصيدته الجيمية الطويلة، والتي ناقض بها قصيدة الشماخ بن ضرار الذبياني، حيث قال في مطلعها:
تَطاوَلَ ليلُ النازعِ المُتهيّج أما لضياءِ الصُّبح مِنْ مُتبلَّجِ
ثم أنشد قائلا:
نَحُلُّ بأكنافِ الزقال فتيرس إلى زيزَ فالأَرْوِيَّتَيْن فالاعْوَج
وزِيزَ هذا: مكان في ولاية "تيرس زمور" الموجودة حالا ضمن أرض موريتانا. ذكره صاحب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط: ص: 97
ومثال أهمية المكان بالنسبة للمؤلفين، المثال التالي الذي يبين فيه المكان الذي تم نسخ المخطوطة فيه: الاكتفا للكلاعي الجزء الأول ويتلوه إن شاء الله في أول الثاني ذكر المبعث بحمد الله، على يد كاتبه لنفسه وفقير مولاه عبد الله بن محمد بن محمد الصغير بن انبوج ووافق الفراغ منه ضحى الثلاثاء، لاثني عشرة ليلة خلت من شعبان بمحل الزويرات من أرض اركيز بجانبه الساحلى عام جيد لكم شقص( 1267هـ) عرفنا الله خيره.
إننا نعتبر مثل هذه المشاريع خدمة وطنية جلى لا يجب التقاعس عنها، بل مبادرتها والإسراع في إخراجها إلى العيان خدمة للوطن والمواطن.