تراعى وقفتنا الرمضانية خصوصية الفضاء الزماني لرمضان ، فتستعرض القيم والمفاهيم المركزية فى الخطاب الإسلامي من منطلق شرعي ، لكنها تنفتح فى الآن ذاته على الواقع ، فتطرح أسئلة الحكامة والتنمية ، وتبحث إشكالات الفكر والتربية ، وتعرض لكل المشاغل والقضايا الوطنية ؛ انطلاقا من منظور شمولي حداثي ، منفتح على كل المقاربات الفكرية والإسهامات العلمية ؛ فى شتى المجالات المعرفية والتجارب البشرية العالمية.
وفى هذا السياق تؤكد وقفتنا اليوم على حاجة الموريتانيين - أكثر من أي وقت مضى- إلى صياغة وبلورة "مشروع مجتمع مؤسسي حداثي" يرتكز على منظومة قيم معاصرة ، تحدث قطيعة سوسيو - ثقافية مع تراث "البداوة " وإرث " السيبة" من أجل تجذير مفاهيم الحكامة والتنمية ، وتكريس قيم الدولة المدنية ، وترسيخ ثقافة القانون والنظام والكيان المؤسسي الجامع.
لامراء فى أن الديمقراطية نظام سياسي حديث من أرقى نظم الحكم التى توصلت إليها البشرية ، ولا جدال فى أنها تشكل آلية راقية ووسيلة حضارية للتداول السلمي ، وتدبير وتسيير الشأن العمومي .
بيد أننا نسيئ إليها ونسيء فهمها حين نجتثها من سياقها التاريخي العام ، ونقتلعها من ظروفها الموضوعية ومسوغاتها المجتمعية ، فنراها وفق نظرة اختزالية قاصرة مجرد (قوائم للناخبين ولوائح للمترشحين وصناديق للاقتراع... )..إنها فى الواقع جزء لا يتجزء من منظومة قيم حداثية شاملة ، إذا لم تتكرس عوامل وجودها ومناخ احتضانها فى بيئة مجتمعية معينة ، فإن الديمقراطية بمفهومها الشكلي تصبح ترفا سياسيا وطلاء تجميليا لا طائل من ورائه.
لابد لإرساء ديمقراطية حقيقية وحكامة نموذجية من تجذير الوعي المدني و ترسيخ ثقافة المواطنة ، وتعزيز مفهوم الدولة الوطنية الحديثة ، وتوطيد دعائم الحكم الرشيد ، والقضاء على البيروقراطية والرشوة واختلاس المال العام ، ومحاربة شتى أنساق وأصناف الفساد الإداري والمالي.
ولابد للوصول إلى ذلك من منطلقات سليمة ، تؤسس لقيم أخلاقية جديدة فى الحكم ، قوامها سيادة القانون والإنصاف والعدالة والمساواة ، وغايتها احترام الحقوق وحماية الحريات ، ومنهجها تعزيز وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة لإشاعة قيم النزاهة والشفافية والكفاءة المهنية فى إدارة المصادر البشرية و تسيير الموارد المالية العمومية.
لقد شهدت البلاد خلال العقود الأخيرة استشراء ظاهرة خطيرة ، تدرجت مع مرور الزمن ، فتحولت من طور الاستثناء لتتكرس قاعدة لعمل ممنهج ، يستنزف ثروات البلاد وينهب خيرات العباد فى سياق ما بات يعرف باختلاس المال العام ، ولعل الأدهى والأغرب فى الأمر أن هذه الممارسة انتقلت من صفة العيب والقدح ، لترتدى لبوس المدح ، فى بعض الموازين المختلة ، فاضطربت المفاهيم والتبست المصطلحات التى ينعت بها أصحابها فى قاموس و أدبيات الخطاب السياسي المحلي ، وكأنما غاب عن الأذهان والأفهام أن اختلاس المال العام جريمة قانونية واقتصادية بشعة ، ومعضلة اجتماعية وأخلاقية سيئة، مدانة فى كل الشرائع والقوانين والأعراف البشرية ، وهي من أخطر الظواهر المعيقة للتنمية .
ومن غرائب الأمور ومفارقاتها أن النخب الثقافية والفكرية والسياسية التي تتغنى بالقيم والمثل والمبادئ ، ما إن تتولى مسؤولية فى تسيير الشأن العام - فى الغالب- حتى تغرق فى الوحل ، وتبدأ فى ممارسة الفساد متنكرة لمبادئها وقيمها ، والأغرب من ذلك أننا نجد بعض من مارسوا الفساد فى هذه البلاد يتنطعون أمام الملإ ، ويتحولون بين عشية وضحاها إلى واعظين ومصلحين ومدافعين عن قيم الديمقراطية والجمهورية.
نحتاج إلى "نقد العقل الموريتاني" وتحليل بنيته النفسية والذهنية ، وتفكيك تركيبته الانتروبولوجية لفهم هذه التناقضات والمفارقات السلوكية الصارخة بين الرؤية النظرية والممارسة الميدانية لبعض النخب الوطنية.
إننا بحاجة ماسة إلى التأسيس لنهج جديد فى الحكامة ، قائم على المساءلة والمحاسبة ، و البحث عن الخبرة والكفاءة ، والقطيعة مع ممارسات الفساد و الزبونية والمحسوبية ، والحث على التسيير العقلاني الراشد للثروات والموارد العمومية ؛ الموجهة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الرفاهية للمواطنين ؛ بوصفهم الثروة الحقيقية ووسيلة التنمية وغايتها.
ولابد لتحقيق ذلك من العمل المدروس والممنهج ، والتفكير الإستراتيجي الخلاق ، والانفتاح على الثورة التقنية والمواكبة الديناميكية لمستجدات القرية الكونية ؛ فضلا عن القطيعة الكلية مع القنوات التقليدية المناقضة لقيم العصر ؛ وبذلك نصل إلى إرساء أسس مجتمع حداثي ، تغيب فيه الذوات وتحضر المؤسسات.