لغة التدريس..السّلّم نُصِبَ عائقا (1) / د.شماد ولد مليل نافع

اللغة قناة سقاية العقول بالمعارف, والتدريس بلغة لم تكتسب بعد تعليم بالتنقيط.

اللغة صمام العقول

1.1 التعليم معارف وبنية ذهنية

يهدف التعليم إلى إعداد الأجيال المتلاحقة للمساهمة في العملية التنموية من خلال تزويد الأفراد على اختلاف قدراتهم القبْلية, من ذكاء ومواهب, بما يسمح لهم بممارسة مهنة معينة, واتخاذ القرار الصائب في المسائل التي ستعرض لهم في المستقبل. ويتم ذالك من خلال :

تسليح الفرد بقدر معين من المعارف والخبرات التي راكمتها البشرية عبر تاريخ تحصيلها المعرفي. ومن هذه المعارف والخبرات ما هو عام مشترك. يجب أن يقدمه المجتمع لكل الذين قدر لهم أن يولدوا على هذه الأرض, وأن يعيشوا بها طفولتهم, كالحد الأدنى من المعارف الدينية والثقافية والصحية والمدنية. ومنها ما هو عام متخصص يهدف إلى جعل كل فرد يكتسب مهنة يستطيع من خلالها أن يعيش من صنع يديه, وتضمن له استقلاليته وحريته وحظه من عظيم أجر كسب المرء من عرق جبينه. ويحقق من خلالها إسهامه في خلق الثروة, لأن الثروة تخلق ولا تنتظر, تخلقها العقول والسواعد من خلال توسيع وتنويع وتطوير وتكثيف العملية الإنتاجية. وأدعو هنا إلى صياغة فقه العمل وتدريسه وفق رؤية تدرك أثر العلاقة العقائدية للناس بالعمل على التنمية, وعلى رخاء الأمم, وتعطي العمل مكانة الصدارة التي يستحق بين أبواب الأجر, والتفريق في ذالك بين العمل الإنتاجي وبين المهن الوسيطة التي يشكل استفحالها في المجتمع استنزافا للمنتجين والمستهلكين, والتي يجب أن تحجم إلى حدودها الدنيا الضرورية لربط الصلة بين المنتجين والمستهلكين دون القبول بتهيئة ظروف استفحالها كما هو الحال عندنا اليوم.  ويجب أن نجعل من تعليم كل طفل مهنة معينة, مهما تكن قدراته الذهنية, حقا واجب الإنفاذ*,

بناء منظومة قيمية مشتركة, تجمع أبناء الوطن على اختلاف مشاربهم الجغرافية والثقافية, تتمركز حول القيمة المحورية للأمانة على الأموال والحقوق لأنه دون ذالك تنعدم الثقة في المؤسسات وبين الأفراد وتترنح التنمية لأن الثقة دعامتها الأساسية.

تطوير آليات التفكير العقلاني تبديدا لشوائب اللاعقلانية التي تزرعها البيئات الأسرية والمجتمعية الهشة معرفيا وثقافيا في عقول النشء. و التي يتلقفها الأطفال باعتبارها حقائق قطعية وتفسيرات يقينية, لأن الآباء والقائمين على التربية المنزلية عموما يشكلون في إطار الأفق المعرفي والعاطفي للأطفال مطلق العلم ومنبع اليقين, والتي إذا لم تفككها المدرسة ستظل تسوس طريقة تفكيرهم, تُنقص حياتهم, وتقيد سهمهم وإسهامهم في التنمية.

العمل على تعظيم مشترك هوياتي لا يلغي الخصوصيات الثقافية للأفراد والمجموعات وإنما يعمل على زيادة المشترك, وزيادة تقبل الاختلافات, وتحسين أدوات تسيير التناقضات الثقافية, وتعزيز الثقة عند أبنائنا في ديناميكيات التقريب المجتمعية الطبيعية دون محاولة التأثير التعسفي عليها لأن ذالك غالبا ما يقود إلى نتائج عكسية يطبعها الانطواء الثقافي وعرقلة ديناميكيات التقريب العفوية.

لأننا إذا لم نرسخ منظومة قيمية تتمحور حول الأمانة على الأموال والحقوق, ونجذر العقلانية, ونبني علاقة سليمة بالعمل, تكون المعارف والخبرات التي نعلمها لأبنائنا زراعة أرض عقيمة. وإن خطأنا التربوي الجوهري هو أننا أهملنا أرضية المعرفة, أهملنا عملية بناء الدوافع الذاتية عند الفرد للمشاركة في العملية التنموية, والتي يشكل التفكير العقلاني, والعلاقة السليمة بالعمل, ومنظومة قيمية محورها الأمانة على الأموال والحقوق, وقدرا من قبول التضحية بالفردي للجماعي وبالضيق للواسع, ركائزها الأساسية.

1.2 المخنقة اللغوية

التعليم إذن هو عملية تواصل تهدف إلى نقل المعارف وبناء البنية الذهنية المناسبة إعدادا للفرد ليكون قادرا على لعب دوره التنموي. أطراف عملية التواصل هذه هي المعلم والمتعلم وكتب التدريس وتشكل اللغة قناتها الأساسية. فبقدر إتقان المعلم والمتعلم للغة التدريس تتحد وتيرة تدفق المعارف وفاعلية عملية التعليم. وإن استخدام لغة لم تكتسب بعد يكبح عملية التعليم من خلال خنق قناة التواصل, فيعيق انسيابية تدفق المعارف, ويحجم المعلومات المكتسبة ومستوى عمق فهمها, وهذه هي الغاية الجوهرية من العملية التعليمية. فنحن باستخدام لغة لم تكتسب بعد في التدريس نعيق الهدف الجوهري للعملية التعليمية ونضع مطبات غير ضرورية, يعجز كثير من الأطفال عن تجاوزها, فنزيد التسرب المدرسي ونحول بين كثير من أبنائنا ومعارف ضرورية في حياتهم المستقبلية.

وإن تطور الأداء الذهني للأفراد يرتبط ارتباطا وثيقا بحجم المعارف المكتسبة خلال كل مرحلة من مراحل العمر. فإذا أعقنا وتيرة اكتساب المعارف بخنق قناة التواصل من خلال استخدام لغة لم تكتسب بعد, فإننا بذالك نعيق تطور الأداء الذهني للمتعلمين.

فنحن باستخدامنا للفرنسية أو غيرها من اللغات التي لا تتوفر لها ظروف الاكتساب الديمقراطي في بلدنا نكبح عملية التعلّم, ونعيق تطور الأداء الذهني لأبنائنا, ونهيئ ظروف استفحال التسرب المدرسي والخروج من العملية التعليمية دون الحد الأدنى من المعارف الضرورية للحياة ولإسهام الفرد في العملية التنموية, ونحكم على الغالبية العظمى من الذين لا يعرف آباؤهم الفرنسية ولا يستطيعون دفع حصص خارج إطار التعليم النظامي بالفشل المدرسي, ونحكم بتدهور نوعية التعليم للقلة الباقية, دون أن يكون لذالك تأثير يذكر على  تعلم الفرنسية, لأن الفرنسية يمكن أن تكتسب دون أن تستخدم كلغة تعليم حالها في ذالك حال سائر اللغات الأجنبية.

و إن الاكتساب الديمقراطي للغة ما في مجتمع معين لا يتأتى دون توفر أحد عاملين أن تكون هذه اللغة لغة التخاطب في الغالبية الساحقة من البيوت أو أن تكون لغة الحديث في الشارع. دون توفر أحد هذين العاملين يبقى الاكتساب الجماعي للغة ما مستحيلا, ويبقى التدريس بها إقصاء متعمدا لأولئك الذين لا تسمح الظروف المعرفية أو المادية لآبائهم بتعليمهم إياها, وتعطيلا مقصودا للمصعد الاجتماعي. وإن الاكتساب الديمقراطي لا يتوفر موضوعيا إلا للغة العربية التي في نسختها العامية هي لغة الشارع أو إحدى لغاته في جميع مقاطعات الوطن ويستطيع كل طفل أن يكتسبها من أقرانه في الشارع وإن التدريس بغيرها حجب للعلم خلف ضباب اللغة.

على محبي الفرنسية, وأنا أحدهم, وهي تستحق كل الحب, فهي لغة جميلة ترتسم الابتسامة على وجوه أهل الأرض حين تدغدغ آذانهم. تضوع من قيود تصريفها رائحة الحرية, عبق نضالات الإنسان من اجل الإنسانية. تتشبع بالعقلانية تنثرها بسخاء على لغات العالم. على محبي الفرنسية والعاملين على نشرها أن يدركوا أنهم لا يقدمون لها خدمة بزرع كراهيتها عند أطفال تحول بينهم والعلم وعند آباء يرون أطفالهم يكاد العلم لا يتراءى لهم خلف الضباب الكثيف للفرنسية.

وإننا نعلم جميعا - كتمنا ذالك أو عبرنا عنه - أن اكتساب لغة أجنبية لا يمر بالضرورة بالتدريس بها في المراحل الأساسية والثانوية وإلا لما كان ملايين الناس عبر العلم تعلموا الانكليزية في بلدان لا تدرس بها. وإنما لاكتساب لغة أجنبية يكفي تدريسها وفق خطة محكمة, وأن نضمن من خلال عملية تحقق دورية مركزية تنظمها الوزارة من مستويات المتلقين, وأن نلزم الذين لم يحصلوا على المستوى المحدد لمرحلتهم الدراسية بدورات صيفية تكميلية مكثفة للحصول على المستوى المطلوب والمتابعة خلال السنة اللاحقة مع زملائهم دون صعوبات. وسأعود لتفصيل هذه الآلية في الجزء الأخير من هذا المقال.

إن كل لغة تكتسب تفتح نافذة على المعرفة, تتسع باتساع ما أنتج بها وينتج. وان الفرنسية تفتح نافذة واسعة على المعرفة لعلها الأوسع بعد الانكليزية خاصة في الإطار الجغرافي والتاريخي لبلدنا. ولا يتعلق الأمر هنا بمحاولة تحجيم أهمية اكتسابها وإنما يتعلق بالعمل على إزاحتها من وضعية العائق المعرفي إلى وضعية السّلّم إلى المعرفة, وذالك من خلال إخراجها من وضعية القضبان التي تسد منفذ أبنائنا إلى المعرفة عبر استخدامها كلغة تدريس قبل اكتسابها - وضعية هي في غنى عنها ولن تورثها إلا كراهية لا تستحقها - إلى وضعية النافذة المعرفية المشرعة من خلال تأمين اكتسابها عبر تعليمها وفق خطة محكمة. وإن استخدام لغة ما كلغة تعليم لابد أن يكون لاحقا لاكتسابها لا سابقا عليه.    

و إن أبناء الأقليات اللغوية ضحية مزدوجة للتعليم بالفرنسية, فهم كأبناء المجتمع الحساني تكبح الفرنسية التعليم عندهم, وتعيق تطور أدائهم الذهني, وتزيد التسرب المدرسي, ولكنها زيادة على ذالك تجعلهم يعتقدون أن بإمكانهم الاستغناء عن معرفة العربية, فتمر الطفولة ومراحل التعليم الثانوي والجامعي دون إعطائها العناية الكافية لاكتسابها اكتسابا جيدا, وهو ما يحول بينهم وبين ممارسة المهن الليبرالية في مراحل لاحقة من حياتهم لأن من لا يعرف العربية - أو نسختها العامية الحسانية - لا يستطيع أن ينجح في ممارسة المهن الليبرالية في بلد تعداد سكانه لا يصل إلى خمسة ملايين لا يتكلم كثير منهم غير العربية, وقد جرب كثير منهم ذالك ليكتشف أنه بصدوده عن العربية خلال مراحل حياته الأولى, أغلق على نفسه باب الكسب من مهنة يجيدها لأنه قطع على نفسه باب التواصل مع الغالبية العظمى من الزبائن في سوق ضيقة بطبيعتها.

... يتواصل

...........................................

*الحق واجب الإنفاذ (droit opposable) في القانون العام هو الحق الذي إذا لم يحصل عليه الفرد يمكن أن يقاضي الدولة طلبا له.

7. مايو 2021 - 14:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا