مع اقتراب عيد الفطر السعيد، يعود إلى مواقع وصفحات ومجموعات التواصل الاجتماعي، سجال فقهي عريض، يتكرر كلما اقترب إخراج زكاة الفطر، وهو يتناولها من مختلف اوجهها، وبكل أسئلتها واستفهاماتها واعتراضاتها، مع التركيز على الإجزاء فيها، وعلى المفاضلة بين الحب وثمنه نقدا، وما يحقق من ذلك مقصد التشريع، في سد خلة الفقير والمسكين، وتلبية حاجته في يوم العيد؛
وكما في كل عام، ذهب المفتون واهل الراي، وطوائف اخرى، عصية على التصنيف، ذهب الحميع مذاهب شتى، وتبادلوا بشان الموضوع
نسخا خطية وصوتية، من فتاوى لكبار العلماء، في مقدمتها الفتوى الخطية الشهيرة للإمام المرحوم بإذن الله الشيخ بداه ولد البصيري، والفتوى واسعة الانتشار بالصوت والصورة، لإمام العصر الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، شفاه الله تعالى وعافاه، وكلاهما صريحتان في أفضلية تقديم النقود، على الحبوب.
في مقابل ذلك الراي المستبصر، والمتحرر من ربقة التقليد الاعمى، يشيع تداول العديد من قصاصات المتون الفقهية التراثية، المنثورة والمنظومة، والتي تشكك في إجزاء تقديم زكاة الفطر نقدا، وهي تنتمي إلى علماء بارزين من المجتمعات القديمة، او تعود إلى المقلدين المتأخرين لأولئك الغابرين، ممن ياخذون على انفسهم حراسة المذهب المالكي ومتون اتباعه وفتاواهم، مهما تقادمت، مشترطين في إخراج الفطرة ان تكون صاعا من مقتات مدخر، هو غالب قوت اهل البلد.
امثل الأطراف طريقة ومنهجا، في الخلاف القديم المتجدد، حول زكاة الفطر، هم الذين يقفون اولا عند الأصول المأثورة، ثم يعرجون على المتون المسطورة، ثم يستأنسون بقديم الفتاوى، منظومة ومنثورة؛ وهي خطوات على منطقيتها واهميتها في كسب الثقة من المتلقي لا تعصم من الخلاف، حيث تغذي تباين القدماء حول مقتضيات النص، وفهم المتن، وانطباق الفتوى، عوامل كثيرة اخرى، قلما يلتفت إليها المختصمون؛ أبرزها متعلقة بمتغيرات القواعد الاقتصادية المتبعة، والوضع الاجتماعي للناس والحالة البيئية من حولهم، وكلها عرضة للتغير الدائم، زمانا ومكانا واحوالا وسلما وحربا.
ما يجهله او يتجاهله اغلب أطراف الخلاف، فلا تراهم يلتفتون إليه، قط، هو علاقة الحكم الشرعي المنزل والدائم، بالاوضاع والاحوال دائمة التغير والتبدل؛ وهي علاقة تبقى مختلة ما لم تقم على قراءة مقاصدية واعبة، في ظل كل متغير، للنصوص النبوية الماثورة، على ان تجعل من تحقيق غاية التشريع هدفا، وتجعل من مصالح الناس وإشباع حاجاتهم، غاية، ومن ثم تؤسس الحكم على ما يضمن ذلك من افراد الحالة، ريثما تحصل تبدلات وتغبرات جديدة، تستدعي تجديد القراءة بحيبها، وهلم جرا.
بالإشارة إلى النصوص الاصلية المؤسسة، في الموضوع، فإن المطلوب، يوم فرضت زكاة الفطر، في المدينة المنورة، كان إخراج صاع من تمر او صاع من شعير، عن كل نفس، من المسلمين؛ اما المقصد الشرعي الذي عبرت عنه النصوص نفسها، فهو إغناء الفقير والمسكين عن ذل السؤال، يوم العيد، وهو ما يعني تلبية حاجته الضرورية، من الطعام على الاقل، فهل يحقق صاع الحبوب اليوم المقصد الشرعي المنصوص؟.. طبعا لا..! هل هو ارفق بالمزكي أو انفع للبائس الفقير؟.. طبعا لا..!
أن من يرى ان صاعا من الحب (قمح، شعير، أرز، دخن، ذرة...) قد يسد حاجة الفقير اليومية إلى الطعام، هو ذو حظ من الغباء والغفلة؛ الا يعلم هذا المتفاقه ان للطحن والعجن والخبز، اليوم، محلات تقوم بها، على وجه الخصوص، حتي إن الحبوب اليوم قلما تدخل البيوت، بل يشتري أصحابها حاجاتهم من الخبز والعجين والوجبات الجاهزة بما فيها وكسكس والعيش، من محلاتها ومواقع بيعها الخاصة؟.. فما ذا يصنع الفقير بصاع الحب في واقع كهذا؟!
قاس الفقهاء على التمر والشعير غيرهما من كل مقتات مدخر؛ فجعلوا الفريضة قوتا؛ وقد فات الاولين ان الحبوب والثمار و المطعومات والملبوسات والحيوانات، إنما كانت بمثابة عملات للتبادل والبيع والشراء، مقايضة في الأسواق البدائية؛ فلقد كان الدرهم الفارىسي والدينار الرومي وقطع الذهب والفضة، نادرة الوقوع في ايدي العامة، فكانت المشتريات وتعويضات المتلفات وصدقات النساء، واروش الجنايات، تدفع مما هو معروض في الاسواق من منتجات هي بمثابة العملات في الاسواق البداىية.
والمعروف ان سوق المدينة كان عامرا بالتمر والشعير، الذين يمثلان جل انتاج المزارعين فيها، فكانهما (التمر والشعير) عملتا اهل يثرب لانهما يمثلان انتاجها الرئيسي، بل الحصري في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكانه امر بإخراج زكاة الفطر من عملة اهل المدينة، وإن من بليغ حكمة الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدث عن صدقة الفطر، لم يذكر لفظ الطعام، لان للمادتين الرئيسيتين التين امر بإخراجها منهما، وظائف اخرى في سوق المدينة المنورة.