الفضاء السمعي البصري بين وخز الأشواك و سكر عطر الورود /الولي ولد سيدي هيبه

لا شك أولا أن ما تمخض عنه تحرير الفضاء السمعي و المرئي ـ من ربقة "رجعية" الأحكام الغير ديمقراطية ـ و هو ما كانت وعدت به الدولة الإعلام الواعي المتحرر ثم أقدمت على تحقيقه، يمثل اليوم بحق ميلادا معجزا و إن من رحم تحولات عاتية يشهدها عالم أضحى قرية كونية مترابطة الأطراف.

 و هو أيضا الميلاد بهذا الحجم و في ظل التطورات العميقة الحاصلة في العقلية التحررية للبشرية "الموحدة"، الذي سيشكل بأسرع من ما هو متوقع انطلاقة حقيقية، لثورة فعلية داخل الوجدان الموريتاني المهيأ بفعل تراكمات متلاحقة من الإحباط و الأخطاء الفادحة في ظل غياب المقومات المبدئية للدولة المركزية. و إن هذا التحول هو الذي سيضمن بالتالي قيام دولة القانون الثابتة على أرضية صلبة تقوى على مراكز الزلازل الاعتيادية و ذلك بالرغم من عديد الهزات التي ستظل تحاول في "فترة اليأس" من بقاء قوالب الماضي "القريب" و الحاضر "المحتضر" سنة الحكم و أسلوبه الأوحد. و ليست تلك الحرية بهذه القوة التي أصبحت قدر الإنسانية جمعاء، إلا نتيجة حتمية لانفلات أمرها من براثين و أنياب و مخالب التسلط الإقطاعي و الأحادية السياسية و القمعية المؤطرة أو المؤدلجة. و إن الموريتانيين المجبولين بالفطرة على حرية التعبير و المتمتعين بملكة الخطابة و قوة حاسة الفضول و استقصاء و استنباط تفاصيل الأخبار أبدوا، منذ الوهلة الأولى لمنح الدولة هذه الحرية، تفاعلا منقطع النظير مع الوسائل الإعلامية الناشئة من إذاعات و قنوات تلفزيونية، لدرجة أن المتأمل لمجمل الإنتاج الإعلامي لهذه الأخيرة، يدرك، دون أي عناء يذكر و بكل تجليات الواقع، أن هذه الحصيلة تنحصر لحد الساعة في التفاعل العفوي شبه اللحظي الذي يتمحور حول المواطن بشمول المادة المنتجة و إن ما زالت تفتقد مع ذلك إلى الرصانة العلمية و التقنين المنهجي و بدون أن يعريها ذلك إطلاقا من بصمة تحمل نبوغ شباب خلاق، مبدع و قادر على استيعاب متطلبات التطور الحاصل من حوله. و ليست هذه الظاهرة الفريدة إلا دليلا على أن هذه الحرية ستغير معالم التعاطي مع بناء الدولة الحديثة و ستسرع في القضاء على أعتا ما قوض أركانها لحد الساعة و منع قيام مفهومها الشامل الذي به وحده استطاعت أمم أن تتحرر قبلنا من قيود التخلف عن الركب و تمكنت بعد ذلك من الاستفادة بخيراتها الكثيرة في أجواء صنعتها من الأمن و لااستقرار. أما القنوات التلفزيونية و الإذاعية فإنها، على ما تحققه من تقدم مضطرد في سعيها المفعم بالإرادة و التحدي إلى لتغلب على عثرات الانطلاق و ضعف المهنية، مطالبة قي سبيل ذلك بالأخذ والتحلي بمسطرة من المبادئ القطعية للتجاوز إلى المرحلة الموالية و الأهم كي تصبح دعامة ثابتة في صرح السلطة الرابعة و إبرة الميزان وسط كل "الحاكمات" التي تفرزها الديمقراطية الفعلية في ظل تزكيتها إياها و متابعتها و مراقبتها. و ليس أقل هذه المبادئ المتكاملة مبدئيا، في هذه المرحلة مع تفاوتها في الأهمية، التالية منها: ـ الابتعاد عن "الجهوية" لفظا و غاية و التي لا تكاد تخفى من خلال أغلب الأضواء التي تكون مسلطة في إطارها على الهموم و المتطلبات و الأوجه الثقافية و الفنية و التاريخية و السياحية لجهة دون الأخريات في حيز زمني أكبر و من خلال اعتبار أهم كذلك و أشمل لأوجه أكثر عددا و أكبر تواجدا داخل الاستدوهات و في نقاط العمل الميداني. ـ رفض الغلو في المعالجات الإعلامية الغرضية الضيقة للمواضيع ذات الصلة بالقضايا و المصالح العليا للمواطنين و الوطن، محصورة في أطر و اعتبارات إيديولوجية أو طرائقية مذهبية أو عنصرية أو طائفية أو طبقية علما بما تمثله كل هذه التوجهات في واقع البلد المأزوم اليوم. ـ الامتناع عن السقوط في الترجيح البسيط لكفة العمل الخارجي على كفة لإنتاج الذاتي اللهم إذا تعلق الأمر فقط بالعناصر ذات المردودية القصوى على وعي المشاهدين، أو بدفع عملية التحول الاجتماعي و الاقتصادي لولوج العصر بكل أوجه تطوره و صنعه الإنسان الراقي و المؤهل لبناء و حماية وطنه. ـ الفصل بين التجارب الإعلامية السابقة مهما كان لحملة عنوانها من علامات بارزة و الاعتماد على القدرات الشبابية لأنها صاحبة الحق في إدارته من منظور أن العصر عصرها و متطلباته في وطن يعيشون على وقع ديناميكيته و هم المعنيون أولا و أخيرا برفع تحديات بنائه بسواعدهم و فكرهم. ـ الإقلال من ترسيخ ثقافة الجمود و التقوقع على الذات و كبح خطى الزمن من خلال: ا ـ الاستخدام المكثف لـ"النيكاتيف" أي الصور السلبية المتمثلة أساسا في التباكي على رموز ضبابية لماض يصعب تحديد معالمه النهائية و متمثلة في لقطات عابرة بلا عنوان أبرز أشكالها تلك المبينة لخضرة زائلة مثبتة على خلفية أنغام موسيقية و حكاية أشعار منومة محملة بمفاهيم لا عمق و لا قيمة لها كالخريف و البادية و قطعان الإبل و بعض الصناعات التقليدية كأن هذه الصور ملك حضاري لنا دون سوانا. ب ـ الإكثار من الفولكور على نحو يلامس الإفراط مما قد يؤثر لاحقا على أهميته البالغة كتراث يجب أن لا تكشف أوراقه سدا للفراغ أو تململا عن الإنتاجية و إنما يجب حفظه بغيرة شديدة لمواسم جد محددة تبرز جوانبه المشرقة و تحفظ في الزمن قيمته الثقافية و التاريخية و حتى تظل في هذه الحدود المنطلق الدافع إلى إتقان بناء النهضة الحديثة المتوكئة على الإعلام الواعي و المهني الجاد. و لا شك أخيرا أن كل القنوات التلفزيونية و المحطات الإذاعية التي ظهرت إلى حد الساعة قد أبلت كلها بلاء حسنا في حقلي الإعلام و الثقافة حاصدة و مهدية بذلك في آن البيت الموريتاني و غيره بوتقات من الورود و الأزهار الملونة بكل ألوان طيف قوس قزح، و لا ريب في أن قياداتها و طواقمها المحددة لسياساتها و القائمة على إنجازها مدركة أن الأرضية تعج كذلك بالأشواك التي يؤلم وخزها و قد يعطل إن لم ينقى من مسالك الدروب و مراسي الأهداف، و أنها بهذا الوعي المتقدم بالمسؤولية ستخلق لهذا البلد الذي تأخر طويلا عن ركب الأمم إطارا لوعي متطلبات الوصول و ضمان البقاء.

27. يناير 2013 - 18:39

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا