1 ـ إن الخصوصية الإسلامية المتمثلة في مبدأ التوحيد الذي يتضمن ويضمن الخضوع المطلق والانقياد الكلي الذي يجعل "الحياة الثقافية" نابعة من الأوامر الدينية في كل المسائل الاعتقادية وغالبية المسائل الأخرى (الاعتراف للعادة والعرف بدورهما في بعض القضايا الدينية مثلا) تجعل الحديث عن التعريف السابق للعيد تخضع للمراجعة في عدد منها، وتشترك مع بعضها الآخر في نفس المعنى الذي أعطاه لها الأنثروبولوجيين.
2ـ انطلاقا مما قررته النظرية الأنثروبولوجية في تعريف "العيد"، يمكننا الحديث عن نقد لهذه النظرية انطلاقا من محاولة رصد "نظرية إسلامية في العيد". فعلى الرغم من أن النظرية الأنثروبولوجية في العيد تعرضت للثقافة الإسلامية في هذا الموضوع إلا أن وضعية "المراقب الخارجي" للدارسين ماهَتْ بين العيد الإسلامي وباقي الأعياد نتيجة بعض المظاهر المشتركة وهو سوء فهم لا ينطلق من رؤية أهل الثقافة نفسها لدلالة ممارساتهم الطقسية أو الشعائرية.
3 ـ يمكن الانطلاق من المعنى "الايتومولوجي" لكلمة "عيد" في اللغة العربية لتقرير بعض خصائصه في الدين الإسلامي: تذكر المراجع اللغوية أن الكلمة مشتقة من العَوْد، أو من العادة، فانطلاقا من "العود" يفهم معنى الرجوع كخاصية من خصائص العيد. وانطلاقا من "العادة" تعني الكلمة مختلف العادات المصاحبة لتخليد العيد والاختلافات الطقوسية في ذلك.
4 ـ هناك معنى آخر نرى أنه هو الأقرب لمفهوم العيد الإسلامي، وإن كانت المعاني السابقة تساهم في بعض أوجه التعريف، إلا أنها عامة في كل عيد، أما المعنى الثالث فهو الذي يعطي للعيد معناه الإسلامي، فالعيد يعني الشَّرف والرِّفعة والرِّياسة. تم اشتقاق هذا المعنى من اسم جَمَل كان في الجاهلية اسمه "العيد" وقد كان هذا الجمل رمزا للشرف والأهمية لذلك أُطلِق العيد على هذه المعاني، وبهذا المعنى فسَّر "القرطبي" كلمة العيد التي ورت في القرآن الكريم مرة واحدة. إن العيد في الإسلام يشمل هذا المعنى، فهو شرف ورياسة أعطاها الله للمسلمين، وبهذا المعنى كذلك وردت أحاديث نبوية عديدة.
5 ـ يلتقي الإسلام مع مختلف التعريفات الأنثروبولوجية لكنه يضع عليها قيودا، فإذا كان العيد حدثا انتهاكيّا كما ترى الأنثروبولوجيا إلا أن تلك الانتهاكات ليست على عواهنها في الإسلام، لا يسمح الإسلام بالانحلال الأخلاقي تحت أي ظرف، سواء في العيد أو في أيام الحياة العادية.
6 ـ هذا المنع يجعل الاحتفال الإسلامي بالعيد يقطع مع الممارسات الفُجورية التي تشاهد في الأعياد الأخرى بل وتكون غالبا من مأموراتها حيث تعمد الأوامر الثقافية إلى قلب كل المحظورات رأسا على عقب في "زمن العيد"، وهكذا مثلا يصبح الاختلاط الجنسي، زنا المحارم، الإفراط في السُّكْر، التجسس، الاعتداء، السرقة... أمورا مرغوبة وأحيانا مفروضة في العيد.
7 ـ إذا كان من خصائص العيد أنثروبولوجيا الإسراف والتبذير، فالشريعة الإسلامية لا تعطي لهذه الخاصية أيَّة احتمالية وجودية في العيد.
8 ـ يسمح الإسلام بالممارسة "الجماعية" للعيد، وبالممارسة "الاجتماعية" إذا كانت لا تنطلق من "الطقوس" بل من الشرائع، أي الممارسات التي لا تنطلق من العادات ذي الأساس غير الإسلامي بل من تلك المؤسَّسة والمرسَّخة إسلاميا.
9 ـ يقر الإسلام بعامل "الشرعية" في الانتهاك الاحتفالي، كما يعترف بميزة "الاحتفالية"، إضافة إلى أن الفرد قد يُخلد العيد بصورة احتفالية غير جماعية. كما يرد التقييد على حدود "الشرعية" في الانتهاك لتبقى مرتبطة بمبدأ المحظورات العامة التي لا يمكن خرقها تحت أي ظرف ولا في أي زمن، في اختلاف بَيِّنٍ عن باقي الثقافات التي تجعل من الشرعية الانتهاكية زمن العيد لا تحدها حدود.
وظيفة العيد:
10 ـ بحسب الأنثروبولوجيا، فإن صفة "الدَّوْرِيّة" المميزة للعيد تعبر عن عودته إلى صلب الحياة الطبيعية والحياة الاجتماعية، فالمجتمع يتجدد بهذه المناسبة كما أن الطبيعة تعود إلى حالتها الأولى، حالة الخواء والفوضى (الكاوس) والتشوش السديمي الأول قبل وجود الحياة البشرية وقبل وجود نظام الأشياء أو وجود نظام الثقافة، حيث كان كل شيء في فوضى: الآلهة المتحاربة، العناصر المادية غير المتمايزة، الخواء المنتشر، الفوضى العارمة...الخ
11 ـ وبما أن المجتمع مرتبط لدى تلك الثقافات بالطبيعة، فإن التشوش الطبيعي يفضي إلى التشوش الاجتماعي لأن سَيْر المجتمع يواكب دائما سير الطبيعة، ولذلك فينبغي في العيد إعادة خلق الحالة الأولى: التشوش في الطبيعة عن طريق خرق القوانين التي يرون أنها طبيعية مثل تحريم زنا المحارم أو أكل بعض الحيوانات الطوطمية أو الأغذية المحرمة، والتشوش الاجتماعي بتعميم مظاهر الفساد على كل الموافقات الاجتماعية التي يضمنها القانون بما هو مشتق في الأصل من قانون الطبيعة التي تتمتع لديهم بطابع إحيائي أرواحي.
12 ـ إن تخليد العيد هو محاولة للعودة للحياة الأولية، لذلك يوصى بالانحلال والفوضى وإخماد النظام... إن تلك المعتقدات تعطي دورا تَدَخُّلِياً للعيد لا على المستوى الرمزي فقط بل على المستوى الواقعي، فالإيمان عميق بأن العيد يؤدي هذا الدور الفاعل. إن مناسبة العيد هي وعدٌ كبير بعودة حالة الوفرة الأولى في مقابل القحط الحالي: صحة أفضل، وفرة في الغلال، كثرة في الصيد، نساء ولودات، رجال خصيبون... الخ. لذلك فأيام الأعياد لدى هذه الثقافات تصاحب عادة ظواهر طبيعية مثل الانقلاب الشتوي أو فصل الخريف أو أوان تكاثر الحيوانات...
13 ـ أما الإسلام فينفي أي دور للعيد (الأفلاك التي يرتبط بها العيد) في تغيير نظام الطبيعة والأشياء (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته. حديث شريف، البخاري.).
14 ـ وإذا كان العيد يمثل لدى تلك الثقافات انقطاعا في سير الطبيعة والحياة بكل معنى الكلمة حيث تتكفل الطقوس بالعودة (رمزيا، أو واقعيا) إلى الزمن الأول، فإن الإسلام ينقل العيد من مستوى الطقس الفاعل والمتدخل في الطبيعة والمجتمع إلى دور الشعيرة التي يستشعر من خلالها المؤمنون المبدأ الإيماني الأول، مبدأ التوحيد، ويستشعرون نعمة الله الذي أعاد عليهم هذه المناسبة، لا في شكل طقوس وتعزيمات سحرية، وإنما عن طريق التكبير والتحميد والتهليل ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.﴾ (البقرة: من الآية 185) ونعمته عليهم بنقلهم من مبدأ "الضحية البشرية" إلى "الضحية الحيوانية" ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.﴾ (الصافات: الآية 107).
15 ـ لذلك تزخر صلاة العيد بالتكبير والتهليل والتحميد، ومن هنا كانت أيام العيد الإسلامي رمز للبركة والطهر (يرجون بركة ذلك اليوم وطُهْرَتَه. صحيح البخاري.) عكس الأعياد الأخرى التي يُطلب فيها الانحلال ويؤمر فيها بإتيان أنواع الدنس (أيام العيد هي أيام "المدنس" حسب النظرية الأنثروبولوجية).
يتواصل...