ظلت القضية الفلسطينية رغم البعد الجغرافي حاضرة في وجدان الموريتانيين حكومة وشعبا، وعلى طول فترات الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي كانت موريتانيا دوما تقف بقوة إلى الجانب الفلسطيني مناصرة وداعمة انطلاقا من قناعة راسخة لدى كل الموريتانيين بعدالة القضية الفلسطينية وكونها قضية عربية إسلامية عامة تتصل بعقيدة ومشاعر المواطن الموريتاني، فتنوعت وتعددت مظاهر هذا الدعم بدءً بالموقف السياسي والدبلوماسي الرسمي ومرورا بالدعم اللوجستي المادي والمعنوي وانتهاء بالإحياء الثقافي والتخليد الأدبي لقضية الأمة المركزية.
سياسيا ودبلوماسيا:
عمل النظام السياسي منذ بواكير نشأة الدولة الموريتانية على الانتصار لفلسطين، فقطعت حكومة الرئيس الراحل المختار ولد داداه العلاقات مع أمريكا احتجاجا على دعمها للكيان الصهيوني في نكسة 1967 في ظروف مجاعة وقحط لا مثيل له (جفاف السبعينات) وأمريكا حينها من أبرز الداعمين غذائيا لموريتانيا إلا أن قضية فلسطين عند الموريتانيين - كانت ولا زالت - تعلو ما سواها وتتقدمه في الأولوية، كما منح نظام المختار أيضا للمسئولين الفلسطينيين جواز السفر الموريتاني و بأوامر عليا أوعز إلى السفارات الموريتانية حول العالم تسهيل كافة الإجراءات للفلسطينيين.. وطبعت على جواز السفر الموريتاني مفردة تفيد بمنع حامله من زيارة المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل، كما نجحت الدبلوماسية الموريتانية حينها بقيادة مبادرة في الوسط الإفريقي للتضامن مع فلسطين وأقنعت بعض الأشقاء الأفارقة بقطع علاقاتهم بإسرائيل.. وفي العام 2009 أعادت السلطات الموريتانية تصحيح خطأ التقارب مع إسرائيل الذي ارتكبه نظام ولد الطايع وعجل بزوال حكمه فتمت تسوية مبنى السفارة الإسرائيلية بالأرض وتم رش المكان بالماء بعد جرفه مبالغة في ضرورة الطهارة من قذارة التطبيع ودنسه، وظل القرار السياسي الوطني بعد ذلك موازيا للرأي الشعبي في الابتعاد عن كل أشكال التطبيع السري أو العلني، ولا أدل على ذلك من امتناع النظام الحالي رغم الإغراءات والضغوط المتعددة من الانخراط في موجة التطبيع العربية الأخيرة.
ولم تجمع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ولا الرأي العام الشعبي في موريتانيا على شيء كإجماعهم على دعم القضية الفلسطينية ورفض أشكال التقارب مع المحتل الإسرائيلي
ماديا ومعنويا:
على الصعيد الرسمي ورغم المشاكل المتعددة التي تعانيها التنمية المحلية ظل الموريتانيون يؤثرون الشعب الفلسطيني وقضيته حيث اقتطعت الدولة الموريتانية وهي في ظروف النشأة نسبا مئوية من موازنتها العامة في فترات مختلفة لدعم الفلسطينيين، وساهمت المدرسة الوطنية للشرطة في تدريب وتكوين مئات من عناصر الأمن الوقائي الفلسطيني، وكان لكل فلسطيني قادم إلى موريتانيا الحق في الحصول على بطاقة إقامة ومساعدة مالية مع تسهيل دمجه في المجتمع وتمكينه من الجنسية لاحقا حتى صار منهم تجار وأرباب عمل وذوو حظوة بارزين داخل المجتمع الموريتاني، وفي الجانب الشعبي تعلق الموريتانيون بفلسطين و دعموها بالمال في الشدة والرخاء، وإبان الحروب والانتفاضات والحصار تأبى البصمة الموريتانية رغم الفقر والفاقة إلا أن تكون حاضرة في إطعام وكسوة المقدسيين أو دواء و إعمار الغزيّين.
ثقافيا وأدبيا:
حيث شاع ولع الموريتانيين بتخليد البطولات والأمجاد الفلسطينية فحملت أحياء وشوارع رئيسية في البلاد أسماء رموز فلسطين، من ذاك أن أكبر مقاطعات العاصمة نواكشوط تحمل اسم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ومن أهم الشوارع في قلب المدينة "شارع القدس" الذي وضع ببدايته مجسم لقبة الصخرة قبالة مبنى السفارة الأمريكية، إضافة إلى تسمية أجيال من الشباب الموريتانيين بأسماء قادة المقاومة الفلسطينية، كلها عوامل أدت إلى حضور القضية الفلسطينية بقوة في يوميات المواطن الموريتاني، وظل الدعاء لفلسطين الوتر المتمم لكل الأدعية، ومن آخر المواقف الدينية على سبيل المثال لا الحصر البيان الذي وقعه أزيد من مائتيْ عالم موريتاني تزامنا مع موجة التطبيع العربية الأخيرة أكدوا فيه حرمة التطبيع تحت أي مسوغ و بأي حال وتم توجيه البيان إلى أعلى قيادة سياسية في البلاد؛ كما تغنى كتاب وشعراء بلاد المليون شاعر عبر تاريخهم بفلسطين وخلدوا مظلمتها التاريخية في نصوصهم، فهذا شاعر موريتانيا الأبرز أحمدو ولد عبد القادر يخلد القضية في عديد قصائده مثل قصيدة "في الجماهير تكمن المعجزات" و قصيدة "دير ياسين" وغنى فنانون ومطربون موريتانيون كلمات أحمدو وغيره من شعراء البلاد تضامنا وإحياء لذكرى فلسطين، ومن ذلك ما لحنته وغنته الفنانة الراحلة ديمي منت آب رفقة سدوم ولد أيده في مقام حزين آسر يضع السامع في هول مأساة ما حل بفلسطين في قصيدة "فلسطين" التي مطلعها:
يَا فلسطين يا فريسة عصرٍ ... لقوى الشر عيره غليان
حطمي اليأس بالنضال وثوري ... في مسار قوامه الشجعانُ
لا يردُّ الحقوق إلا دماءٌ ... تتلالاَ كأنّها الأرجُـوَّانُ
أيها اللاجئ المشرد ظلمًا ... أيها النور أيها الإنسانُ
لا تدع حقدك الدفين رفيقِي ... حسرات يلوكها الوجدانُ
حوّل الحقد نقمةً وجحيمًا ... يتلظى لهيبه الجذلانُ
أما الحاج محمود با المنتمي لقومية البولار ومؤسس مدارس الفلاح العربية التي واجه بها المستعمر الفرنسي ثقافيا فناصر القدس أيام النكسة قائلا:
بني الإسلامِ خيرَ العالمينا ... وأشبالَ الغُزاةِ الفاتحينا
نُحيِّيكم ضيوفًا آمنينا ... إلى القدسِ المقدَّسِ فاتحينا
وهذا الأديب الشعبي المبدع حسني ولد الشاش يعبر بصدق وشاعرية نبطية عن مكانة فلسطين في خلد الموريتانيين:
فلسطينْ اَحزانِكْ في الروح ... اتْصابحْ شنقيطِ وتْروح
اَحزانكْ في المُحيطْ تْنوحْ ... أ فَ الشعبْ اَحزانكْ والعَلَمْ
واَحزانكْ في النخلَه واللوحْ ... وفي الدواةْ تْنُوحْ أ ُلِقْلمْ
أ ذوكْ العِلْبْ الواكفْ مَجروح ... افْ بَلُّ ذاكْ أ متْألّمْ
لُكانْ إقَدّْ إبــــــوحْ إبـــــــوحْ ... يـغـيـرْ اَلاّ مــا يتكلـمْ!
ورغم انحياز العالم المتقدم وحلفاؤه بشكل فج لإسرائيل وتنازل حكومات بعض الدول العربية بشكل مؤسف عن مركزية القضية الفلسطينية ووقوعهم في وحل التطبيع إلا أن موريتانيا ظلت وفية لدماء الشعب الفلسطيني و لتضحياته الجسيمة دفاعا عن عرضه وسعيا في استرداد أرضه كاملة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.