تلك الأحداث الدرامية التي وقعت في الأيام الأخيرة من شهر مايو سنة 1968 في أزويرات، والتي قُتل وجُرح خلالها عدد من العمال الموريتانيين في شركة MIFERMA (سنيم الحالية) الذين كانوا مُضربين عن العمل حينها، لم تكن صادمة فحسب بالنسبة للسكان المحليين. فهذا الطفل الفرنسي الذي كان يعيش آنذاك مع والديه في المدينة المنجمية، قد عايش –وهو في سن العاشرة- تلك المأساة المحزنة. وهو يروى لنا في السنوات الأخيرة ذكرياته عنها في قصة مؤثرة:
"أنا تييري أرنولد، كنت أعيش مع والديَّ اللذين يعملان في ازويرات في ذلك الحين. وقد عايشت عندما كان عمري عشر سنوات أحداث إضراب العمال الموريتانيين في شركة MIFERMA (سنيم الحالية) في نهاية مايو 1968. وما زلت أحتفظ بكثير من التفاصيل عن تلك الأوقات العصيبة التي مررنا بها خلال تلك الفترة.
في الأيام التي سبقت الإضراب، كنا نذهب إلى المدرسة بشكل إعتيادي، لكن في ذلك المساء، أخبرتنا والدتي بأننا لن نذهب إلى الفصل في اليوم التالي. فالموريتانيون مُضربون وغاضبون، وهم يفوقوننا عددًا. وهنا ليس الأمر كما في فرنسا قالت لنا أمي وكأنها آسفة. وحتى نتمكن من فهم قصدها بشكل أفضل، أخبرتنا والدتي بأن حافلة الفرنسيين -الذين كانوا ذاهبين في إجازة إلى بلدهم- قد تم رشقها بالحجارة أثناء مرورها أمام المتجر التعاوني économat وأن الأمر في المدينة قد بات خطيرًا.
وبالفعل، فقد اتضح لي بأن الوالدة كانت على حق بمجرد أن حل الظلام في تلك الليلة.
في ذلك الوقت، كنا نعيش قبالة العيادة المتعددة التخصصات القديمة، وفي حوالي الساعة 8 مساءً، تمكنت شاحنة رينو صغيرة تابعة لمصلحة المناولة Manutention أن تخترق حاجزًا وضعه المضربون على الطريق الرئيسي عند مدخل أزويرات. كان سائق الشاحنة شاب فرنسي يعمل في المناولة، وكان يعرفه جيدا السيد ميشيل بريدا Michel Breda. وهو ذو شعر داكن، وبعينين بارزتين، لكني لم أعد أذكر اسمه بالضبط. وكان معه شخص آخر في مقدم الشاحنة الصغيرة. وقد وصلوا إلى بيتنا وهما في محنة شديدة بعد أن تحطمت نوافذ الشاحنة، لكنهم كانوا سعداء ومرتاحين لتمكنهم من تجاوز الحاجز.
في وقت لاحق، حوالي منتصف الليل، رأت والدتي أضواء عدة سيارات وهي تنزل من منجم تازاديت متجهة نحو أفديريك. كان والدي يقول: "إنهم مجانين، وليسوا متحفظين، وستواجههم المشاكل ".
وبالفعل، فقد كان العمال الأوروبيون عائدين من نوبة العمل في فترة ما بعد الظهر، وقد نزلوا من تازاديت وكانت سياراتهم تسير بمصابيح مضاءة، وهم يتجهون إلى مجمع المصالح العامة للشركة Services Généraux مُلتفّين على التلال الثلاث لبرج المياه، لتجنب العمال المضربين الذين كانوا عند مدخل المدينة وقد نصبوا الحواجز بالقرب من كوخ sépis الحارس. كان العمال الأوروبيون يأملون في التمكن من الدخول إلى أزويرات عبر مكب النفايات القديم عند سفح التلة، وصولا إلى ملعب كرة القدم ثم إلى مضمار سباق سيارات الكارتينغ المحاذي له.
كان والدي قد أنهى جملته بالكاد عندما كان العمال الموريتانيون المُضربون يغادرون الحاجز المقام قرب كوخ sépis الحارس عند مدخل المدينة، متجهين عبر الحي الأوروبي الذي كان يعرف بـ " ميركوروكروم"* ربما بسبب رائحة الكحول نظرا لقربه من العيادة المُجمّعة التابعة للشركة، نحو ملعب كرة القدم. وأتذكر عندئذ بأن والدي قد أجبرنا على الدخول إلى المنزل على الفور، وكان هناك صراخ وهتافات أثناء مرور المُضربين ورشق بالحجارة على أبواب ونوافذ المسكن العمالي الذي كنا نعيش فيه وكذلك على أبواب الجيران.
أما بداخل منزلنا، فقد كان والدي مستعدا للمواجهة –في حالة الإعتداء علينا- ولديه عصا خشبية غليظة هي في الأصل مقبض فأس كان يحتفظ بها في مخزن أدواته. أما جارنا غي بريدا Guy Breda والذي كان جزارًا في المتجر التعاوني économat، فكان لديه عدد من السكاكين والخناجر الكبيرة التي يستعملها في الجزارة. وهكذت، فقد كان لدى الجميع سلاح مهما كان بسيطا للدفاع عن أنفسهم.
خلال تلك الدقائق، بدا الوقت طويلاً جدا، وقد شعرنا أنا وأختي بالخوف.
ثم عاد الهدوء.. وبعد ذلك، قام الكبار بمغامرة الخروج من المنازل. وفي تلك اللحظات، ظهر السيد جانس M Gance لاهثًا ومذعورًا وكأنه خرج من العدم. لقد اضطر إلى التخلي عن سيارته لاندروفر في العراء بين مضمار سباق سيارات الكارتينغ ومساكن الحي الأوروبي، ثم أطلق ساقيه للهرب.. وقد أخبرنا وهو في نوبة من الخوف الشديد، بأن الموريتانيين الغاضبين كانوا بالمئات...
بعد حوالي ثلاثين دقيقة، وصل السيد كاتينو CATINOT (على ما أعتقد) بدوره، والذي كان قد فر واختفى أيضًا لفترة طويلة قبل أن يعود. وقد أخبر والديْنا بنفس الوقائع التي سردها السيد جانس M Gance.
بعد ذلك، ورغم أن الكبار قد عرضوا عليهما حفاظا على السلامة، البقاء وقضاء الليل معهم، فقد قرر كلاهما العودة إلى المنزل لطمأنة عائلتيهما. لا أعرف من أين ولا كيف تمكنوا من الوصول إلى منازلهم، لكن الأكيد أنهم قد عادوا إليها سالمين.
ثم مرت بقية الليلة مع تناوب الكبار على الحراسة والرصد، وقد كانوا في الحقيقة قلقين ومُتوترين للغاية بسبب الوضع الذي كان قائما.
كانت أختي آريان، مصدومة بسبب صراخ وزغاريد النساء الموريتانيات التي كانت تأتينا من جهة حي "الديار البيضاء" ومن أماكن أخرى بعد ذلك. وسترتفع تلك الصيحات و الزغاريد كل مساء قادم.. ولفترة طويلة جدًا بقيت أصداء تلك الزغاريد تتردد في رأسي.
في صباح اليوم التالي، قرر الكبار تحصين البيوت وتنظيم دفاعنا عن أنفسنا. وأي شيء يمكن أن يكون مفيدًا في تحقيق ذلك. لقد قرروا تفريغ البنزين من السيارات وإزالة البطاريات منها بغية تعطيلها لكي لا تستخدم للدهس.
كانت تعليقات الكبار بلا انقطاع.. ما الذي سنفعله؟ هل تم إبلاغ السلطات المختصة؟ هل سيتدخل الجيش؟ وما إلى ذلك من التساؤلات..
ثم في المساء، سمعنا مرة أخرى هتافات الحشد الموريتاني. وسرَتْ إشاعة بأن الإخوة بريدا BREDA المعروفين في الحي، ومعهم شخص يسمى بوبوس BOBOSSE وربما أشخاصًا آخرين، كانوا يتواجدون أمام فندق Mif-Hotel بهراوات أو أسلحة أخرى في مواجهة مع الحشد الموريتاني. هل كان ذلك استفزازا من جانبهم، أم دفاعا عن مدخل فندق Mif-Hotel؟ لا أعرف ولم أحصل أبدا على الجواب الحقيقي.. ولكن لحسن الحظ، فقد انتهى كل شيء بشكل جيد.
من جانبنا، خلال ذلك التطور، أراد غي بريدا Guy Breda الذي كان جارنا أن ينضم إلى إخوته لكن زوجته لم ترغب في ذلك. أنت لديك عائلة.. إبق معنا.. كانت تقولها له طوال الوقت، وهي على وشك البكاء والإنهيار العصبي، بل يبدو لي أنها كانت تبكي بالفعل.
لحسن الحظ، انتهى ذلك الإحتكاك أمام فندق Mif-Hotel بشكل جيد.. ولكن في المساء عندما وضعَنا والدايّ في الفراش، كانت هناك في أعلى الدرج زجاجات غريبة من مشروب البرتقال Pschitt وبداخلها خرق من قماش بارزة من فم الزجاجات.
أتذكر بأني سألت والدي عن سر تلك الزجاجات.. وكان منزعجًا حقًا من تقديم إجابة لي.. لكن والدتي هي التي أخبرتني قائلة: هذه قنابل مولوتوف وهي للدفاع عن النفس. إذا حاول الموريتانيون فتح الباب، فإننا سنقوم بإشعال طرف الخرقة ونرميها عبر النوافذ لتنفجر في الأسفل.
ثم أضافت: سيعتني أبوك بهذا الأمر، وخلال ذلك الوقت ستقوم أنت مع أختك بالمرور عبر نافذة غرفة نومك وستلجأ سريعًا إلى جيراننا أسرة ريغو RIGOT دون أن تقلقوا بشأننا. لقد كانت تلك تعليمات من الوالدين إلينا.
كانت ليلة عصيبة للغاية بالنسبة لي. لم ينم فيها والداي. كانا يأتيان مرارا لرؤيتنا في الغرفة، وكانا قلقين علينا، ولكنهما كانا يطمئناننا باستمرار بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
في صباح اليوم التالي، طرحت والدتي السؤال التالي: هل يعرف أحد شيئا عن الماء في الصنابير؟ في الواقع، كان هاجسها هو معرفة ما إذا كان الموريتانيون يستطيعون عزل المدينة أو الأحياء الأوروبية لقطع المياه عنا؟ أو ربما حصول ما هو أسوأ بتسميم مياه الصنابير. أخبرتنا أن فكرة تسميم الماء خطرت على بالها عندما كانت تنقُع خبزها القاسي في الماء لتليينه قبل أن تُدخله إلى الفرن.
وبما أنه لا يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كان الموريتانيون المضربون سيقومون حقا بتسميم المياه، فقد قرر الجميع تخزين ما أمكن من المياه إحتياطا. وبالتالي جرى استخدام أي شيء يمكن أن يكون بمثابة خزان ... وهكذا أصبحت العربة اليدوية لوالدي ممتلئة بالماء.
في اليوم التالي لم يعد لدينا من المأكل إلا القليل أو لا شيء تقريبا. عندها قرر غي بريدا GUY BREDA وجاك ريغو JACQUES RIGOT ووالدي إيفون YVON القيام بمغامرة جنونية بالذهاب ليلا إلى المتجر التعاوني économat وأخذ أكبر كمية ممكنة من الطعام والمؤن ثم العودة بها لتوزيعها على الأوروبيين في الحي.
لم توافق نساء الحي على القيام بتلك المغامرة، لكن غي بريدا وجاك ريجو وأبي إيفون فعلوها على أي حال. كانت المرة الأولى التي بكيتُ فيها خلال تلك الأحداث. كان والدي وصديقاه يجازفون بالذهاب بحثا عن الطعام، رغم كل المخاطر التي سمعتها من النساء.. وقد كان في الأمر شيء لا يطاق بالنسبة لي.
وعند حلول الظلام، أخذوا الشاحنة الصغيرة المعدنية التي كانت بحوزة السيد غي بريدا GUY BREDA وذهبوا بها. لقد استغرقت رحلتهم ساعة أو أكثر بينما لم يكن الأمر يستغرق أكثر من 5 دقائق فقط للوصول إلى المتجر التعاوني économat ثم العودة منه.
لقد عانيت الكثير من الخوف، أقولها بحزن.. لكن الرجال الثلاثة قد ناجحوا في نهاية المطاف.
عند عودتهم، سردوا رحلتهم لأحد البالغين الذي كان قد بقي يحرسنا (معذرة، فقد نسيت اسمه ولكن ليس وجهه) لأن ذلك الشخص قد بقي معنا وكان يتحمل المسؤولية الجسيمة لحمايتنا، وهو ما أشكره عليه.
ثم أخيرًا، في اليوم التالي أو في اليوم الذي يليه، إذا كانت ذكرياتي دقيقة، وصل مظليون من الجيش الموريتاني. ظهرت مظلات في سماء أزويرات وكانت لجنود موريتانيين. بالنسبة لنا، حصل مزيج من الفرح والخوف. الفرح بالنجاة كما يتضح ذلك. ولكن على الفور أحضرني أبي أنا وأختي إلى المنزل لأنه كان يخشى تحركات الحشد الغاضب، أو ربما الإنتقام الأخير من طرف العمال المُضربين أوالحشد الغاضب.
وهكذا، سُمِعت قعقعة الأسلحة الأوتوماتيكية وإطلاق الرصاص وتعالت صرخات الحشد الأخيرة.. ثم عاد الهدوء إلى المشهد! كانت سيارات الإسعاف تتعاقب ذهابا وإيابا من وإلى العيادة المجمّعة..
كان الأمر بالنسبة لنا أشبه بالخلاص، لكن ما لبثنا أن علمنا لسوء الحظ، بأن هناك وفيات قد حصلت بين المُضربين. وقد أحزننا ذلك بشكل شديد، رغم ارتياحنا لفك كربتنا. كل ذلك العنف ما كان ليحدث أبدًا.
في الختام، سألت نفسي -بعد سنوات عديدة - هذا السؤال الرهيب والشخصي للغاية، ولكن لم أجد أي إجابة عنه. ماذا لو جرت الأمور بشكل مغاير؟ ماذا كان سيفعل والدي بشأني أنا وأختي؟ كيف كان سيتصرف؟ وهل كان سيجد الوقت الكافي للتصرف؟
هذه هي آخر ذكرياتي عن مايو 1968 في أزويرات عندما كان عمري 10 سنوات..
في النهاية، صدقوني، عند كل ذكرى لعيد ميلادي، أعيد التفكير في مايو 1968 في أزويرات. وفي كل مرة كانت لدي دائمًا هذه المشاعر الصادقة والمتأثرة، كما أرفع دائما صلاتي لأولئك الذين فقدوا أبًا أو قريبًا أو صديقًا في تلك الأحداث. وأنا لم أنس يوما تلك المأساة..
لذا، فإنني أعبّر عن مشاعري الخالصة نحو مدينتي أزويرات، وأصدقائي، وعائلتي".
بقلم: تييري أرنولد الزويراتي*
Thierry ARNOULD , Ould ZOUERATHIE
----------------------------
ترجمة : محمد السالك ولد إبراهيم
----------------------
* نشر هذا المقال بنفس العنوان، كما أطلعت عليه أول مرة بتاريخ فاتح مايو 2017 في موقع آدرار إنفو وكانت تتداخل في النص الجمل الفرنسية والحسانية وهو ما يعكس تمكن صاحبه من هذه اللهجة. ثم نشر بتاريخ الثلاثاء 2 مايو 2017 على موقع Chez Vlane بدون تلك العبارات الحسانية.
* الصورة الملونة يظهر فيها الحي الأوروبي مركيروكروم
* الطفل الذي يحمل كلبا صغيرا هو صاحب هذه الشهادة