من مدينة مراكش الحمراء، حيث يرقد أبرز زعماء الحركة المرابطية، يوسف بن تاشفين في قبر متواضع بالقرب من ساحة جامع "الفنا" الشهيرة التي أسَّسها المرابطون خلال القرن الخامس الهجري، استعيدُ ذكريات تاريخ أمة هناك في صحراء الملثمين...، تملكني شعور غريب وأنا أقف أمام قبر زعيم دانت له المنطقة من أودغست حتى بلاد الأندلس، وهو يرقد خلف قبة متواضعة حالها كحال بلدي الحبيب وساكنته أحفاد (المرابطين، الشناقطة).
لقد استطاع أجدادُنا من المرابطين إنشاء دولة مركزية في الغرب الاسلامي في فترة عزَّ فيها قيام مثل تلك الدولة في المنطقة عموما، رغم نَأيِهم عن مجالاتهم التقليدية حيث صحراء الملثمين، متخذين من مراكش عاصمة لهم، وهي التي تقع بعيدا عن المجالات الجغرافية التي كانت تحت سيطرة القبائل المرابطية التي ينتمون إليها، وهذا ما يشي بقوة السلطان التي وصلت إليه الحركة المرابطية إبَّان أوْجِ قوتها، وما استطاعت تحقيقه من بسط للنفوذ وإرساء لدولة الإسلام في شمال وغرب إفريقيا والأندلس...
لقد كانت الحقبة المرابطية بحق من أهم الفترات التي عرفها تاريخ الدولة الاسلامية في المغرب الاسلامي، فكيف لثُلة من المرابطين القادمين من جزيرة تيدرة على المحيط الأطلسي-حيث ربوع قبائل الملثمين- أن تقيم دولة مترامية الاطراف كتلك الدولة...؟؟ لم يتحقق لهم ذلك لكثرة في العدد ولا قوة في العتاد وإنما بإيمانهم بالله وتضحياتهم في سبيل إقامة العدل فوق أرض الله وتحت سمائه، بسطوا النفوذ وأوقفوا المدَّ الصليبي لبلاد الإسلام عقود عديدة وسنوات مديدة (أربعة قرون)، هؤلاء هم أجدادنا المرابطون الذين لازالت تضحياتهم تمثل مجدا وتاجا على رأس كل موريتاني بل كل مسلم في هذه الدنيا.
ولم يتوقف البذل والعطاء والتضحية لدى أسلافنا عند الفترة المرابطية فحسب، بل سَأمرُ وإن بشيء من التَّجوُّزِ في السياق التاريخي لأحط الرحال بالفترة الشنقيطية لأُبرِز أمجادا أخرى هناك مثَّلها أجدادنا من الشناقطة علما وورعا، فقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة حيثما حلوا، فذاك المشرق الاسلامي يعرفهم قبل أن يعرفهم الغرب الاسلامي، ففي افريقيا حدِّث ولا حرج عن العلم والدعوة التي أخرجوا بها الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم...
ولمَّا جاء دور الاستعمار نفَّذ أجدادنا -ساكنة البلاد السائبة- الذين نعتز بهم خطة محكمة ثنائية تقوم على مقاطعة ثقافية شاملة، ومقاومة مسلحة خاضوا غمارها مع بساطة في العتاد، لكن مع إيمان راسخ وعزة بالنفس وتشبث بأرض ألِفُوها منذ نعومة أظْفَارِهم، فقدَّموا في سبيل ذلك أرواحهم رخيصة في سبيل الدين والوطن، حتى اندحر المستعمر مخلِّفا أذيال الهزيمة وراءه ، و بذلك يكونوا قد أوصلوا سفينة موريتانيا إلى برِّ الأمان لينتهي دورهم مع ظهور "الدولة الحديثة" .
دولة ينعم فيها كل موريتاني بالأمن والأمان، ينال حقوقه و لا يظلم نقيرا و لا قطميرا، دولة يتساوى فيها الغني والفقير، فهم أمام القانون سواسي، دولة العدالة الاجتماعية دولة الحرية، دولة بناء وتعمير، دولة مدنيَّة لا قبلية ولا حزبية (الحزب الواحد).... هذا ما تمنَّاه الرعيل الأول الذي حمل مشعل الحرية للبلاد السائبة، لكن هل كناَّ حقاً خيرَ خلفٍ لخير سلف ؟؟؟
أظن أن الإجابة ومع الاسف، هي لا وألف لا، لم نكن ذلك الخَلف الذي تشبَّث بالمَقُولة الشهيرة "عيب الديار على من بالديار بقي"، فما إن قامت الدولة الحديثة وهي لا تزال في مهدها حتى تم وَأدُ كل الآمال التي علقها أولئك البناة الذين أرادوها موريتانيا للجميع فأرادها من خَلفَهم موريتانيا للإقصاء والتهميش .
فمنذ الارهاصات الاولى لقيام الدولة إلى يوم الناس هذا ابتُلي هذا الشعب الطيب بحَفْنة من العسكر يتحكمون في مصيره وخيراته، مؤسسة عسكرية انتقلت من المرابطة في الثغور إلى المرابطة في القصور، همُّها ليس الدفاع عن الوطن وإنما الصراع على السلطة، فاليوم ينقلب عاليها على سافلها وغدا ينقلب سافلها على عاليها، في دوامة لا متناهية، ادخلت مصير هذا الشعب في حلقة مفرغة، فمنذ أن شكَّل العسكر مجلسه الخاص بالحكم الأبدي لموريتانيا ، المتمثل فيما سُمي اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، وموريتانيا تئِن تحت وطأة سلطة عسكرية متشبثة بالحكم، وكأن الادبيات العسكرية لدى مؤسستنا العسكرية، وما يُلقَّن لمجندي الجيش ومختلف القوات المسلحة هو ضرورة الدفاع عن السلطة السياسية العسكرية بدل الدفاع عن الحوزة الترابية .
وفي خضم هذا الصراع الذي مع الاسف ليس على الحدود دفاعا عن الوطن ومقدراته، وإنما على سلطة أصبح الوصول إليها عبر من يمتلك قوات ضاربة يُحركها نحو قصر رمادي وإذاعة و تلفزيون، ثم يُخرج البيان رقم واحد، فيصبح حاكما للعباد والبلاد، هذا هو ديدن الحكم في بلادنا الحبيبة منذ إنشاء ذلك المجلس المشْؤوم وما رافقه من انقلابات جثم أصحابها على صدور الشعب الموريتاني لقرون عدة نهبتْ فيها خيْرات هذا الشعب المسكين.
ومع نهاية الحكم البائد -والذي بلغت فيه الصبية من العمر عِتيا- تَفاءلتُ خيرًا لمستقبل البلاد رغم أن مؤسسة السلطة لا زالت هي إلا أن رمز الفساد فيها قد زال، وقلت في نفسي هذه فرصة هذا الشعب المسكين كَيْ يرزقه الله قائدا يبني نهضته الحديثة ، يطلق الحريات يقوم بإنشاء بنية تحتية ، يوزع خيرات البلاد بشكل عادل، فكانت المفاجأة أن الذين جاءوا من بعد الحكم البائد أتوا على الأخضر واليابس في ظرف سنتين فقط ..!!! ، ثم جيء برئيس قِيل إنه منتخب، ومع فترته القصيرة قبل أن ينقض عليه العسكر، لم يَجِدَّ جديدٌ وبقي الوضع على ما هو عليه ، فلا بنى تحتية أُنشِئت ولا تحسن على مستوى المواطن البسيط طرأ، وكانت فترته فترة ترحال بالأساس قبل أن يفاجئه العسكر بالرحيل القسري، وهكذا رجعت حليمة إلى عادتها القديمة ورجع العسكر الذي لم يغب عن السلطة والسياسة ولو لحظة واحدة، وربما هي نصيحة قدمتها بعض المنظمات الصحية لمؤسستنا العسكرية في أنَّ ابتعادها عن المشهد السياسي يشكل خطورة على أمن المواطنين وحوزتهم الترابية التي أدوا قسم اليمين على حفظها وصيانتها، ربما من يدري ؟!!
أما عن الطبقة السياسية أو السياسيون فإن معظمهم لا تهمه سوى مصالحهم الضَّيقة إلا ما رحم ربك، وبعضهم إمتَهن السياسة كأداة لكسب العيش فالمهم أن يبقى في رغد من عيشه متاجرا بمصالح الشعب ورهاناته، تارة في المعارضة إذا ما تضررت مصالحه وتارة مع العسكر حينما تكفل له تلك المصالح الضيقة، ولو كانت على حساب شعبٍ برمته، فما دامت مصالحه مصونة فليذهب الشعب إلى الجحيم، ولو كان ذلك الجحيم عند ما يعم سيقضي عليه كما قضى على شعبه الذي لا يقوم لمصلحته وزنا.
ومع ذلك فهذه الطبقة السياسية رغبتها في السلطة وتطلعاتها إليها لا تقل عن تشبُّث العسكر بها ، غير أن ما يقع عائقا أمامها هو استحواذ العسكر على السلاح، فلو سقط في أيديهم لأصبحوا عسكرا في لباس مدني و استولوا على السلطة في أول فرصة تتاح لهم، لكن احتكار القوة من طرف العسكر جعل الأمر صعبا بالنسبة لهم، فليس لهم إلا أن يعيشوا على هامش الأحداث.
وفي ظل الصراع على السلطة هذا و عدم وجود استقرار سياسي _ وهذه كلها عوامل أرخت بظلالها على ماضي البلاد وحاضرها وربما مستقبلها _ غابت مشاريع التنمية، وقيام بنية تحتية شاملة في البلاد.
إنك تحس بالمرارة من واقع بلد لا يتجاوز سكانه 3,5مليون نسمة، مع وفرة في الثروات التي حباه الله بها ومع ذلك لا تجد لها أثرا لا على المستوى الاقتصادي ولا الاجتماعي للسكان، فهم في وادٍ وخيرات بلدهم في وادٍ لا يستفيدون منها إلا ما ندر، ولك أن تحكم عندما ترى هذا الصراع المَحْمُوم على السلطة الذي غابت وغُيِّبت فيه مصالح الشعب، وذهبت أدراج الرياح، لتتبدد معه أحلام شعب برمته.
هَبْ جدلا أننا استنطقنا أولئك الاجداد والرعيل الاول الذين قطفنا ثمار جهودهم وعشنا على أمجادهم، هل سَيرْضَوْن عن واقع مجتمعنا وأمَّتنا؟ فهل كنا حقا خير خلف لخير سلف؟؟؟
الباحث: احمد جدو ولد محمد عَمُو ولد إﮒَّ