ظاهرة بوعماتو: دروس وعبر ومقترح لإدخال ثقافة الريتينچ المؤسسي / بشير شيخنا محمدي

يدور الحديث في الآونة الاخيرة عن حالة "استهداف محتمل" للسيد بوعماتو من قبل السلطات الضريبية وبغض النظر عن حقيقة مستحقات الضرائب المطالب بها وحجمها سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على جانبين آخرين من ظاهرة بوعما تو.

ولكن قبل البدء ثمة شي ء -بفعل ما أعرفه في البلد من ضيق الصدور ومن حساسية قبلية مفرطة- أجدني مضطراً للتنويه اليه من باب التحفظ الأخلاقي؛ انه التفريق الإدراكي بين (ظاهرة بوعماتو كشخص عمومي) و بوعماتو الإنسان. هذا المقال لا يتناول شخص بوعماتو الإنسان ولا يحق له ذلك، لذا بمشيئة الله، لم ولن يصدر فيه ما قد يمس عرض امرئ أو ينال من كرامته كإنسان، أما الأفعال التي جاهر ويُجاهر بها الشخص المعني على المستوى العمومي فتناولُها ليس محل اعتراض معتبر ولا يمكن الاحتجاج على أحد فيها اللهم الا من قِـبل مٌـقدسي الاشخاص او معتادي التصفيق لذوي النِّعمة من أولي النَّعمة بفتح النون..،،أولئك الممهلين قليلاً! ... لا يهمنا اعتراضهم ولا ما قد يصدر عنهم من "نباح".

تأسيساً على التفريق الإدراكي الذي أشرنا اليه، من حقنا كمواطنين وكمهتمين بشؤون بلادنا أن نتناول بالدراسة والتحليل كل الظواهر ذات الإهتمام الوطني المشترك خصوصا منها يطفو منها على السطح كظاهرة بوعماتو هذه الأيام.

كما أسلفت لا يهدف هذا المقال الى تحليل حصري للظاهرة وإنما الى لفت الانتباه الى جوانب تاريخية ومهنية تتعلق بالسيد بوعماتو الشخص العمومي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .... واستباح في المنكب البرزخي الغلولَ والتغولَ سنين عددا. تجلى ذلك في سيرته "اجْـيو بـنكية" وانتقاله من صنف رجل أعمال ناجح في حقله المهني الى صنف رجل أعمال متسيِّس و مُسيِّس أكثر من اللازم لدرجة السعي إلى قــَـوْلــَـبة الشأن السياسي الموريتاني وفق هواهُ طبقًا لنظرية مِكيافـيليـة تعتمد على وَهْمٍ بإمكانية البيع والشراء لكل شي ء بدءً بالسجائر وانتهاءً بشراء الذمم والدوس على كرامة الأطر والموظفين وكل من يجرؤ على الاعتراض رغم ندرتهم في صفوف مديري المؤسسات العمومية.

إن الجانب الأخير من تلك النظرية المكيافيلية اللعينة شاءت له الأقدار أن يتحطم على صخرة شريف النعمة مولاي العربي الإدريسي المدير السابق لشركة سونمكس وقد كانت لقضيته مع بنك بوعماتو تشعبات مرتبطة بممارسات ماحقة دأب عليها البنك المذكور وقد سال في توصيفها حبر كثير لا يتسع المقام لذكرها ويمكن الرجوع فيها إلى وثائق ومعلومات نُشرت في عاميْ 2010 و 2011 و قد تعددت مصادرها وتطابقت وارتقت في صدقيتها إلى درجة التواتر بالإستفاضة.

إذا عدنا بالذاكرة إلى مرحلة التسعينات من القرن الماضي، ندرك أن السيد بوعماتو كان يتمتع بمهنية عالية في أوساط المال والأعمال لقد ظهر في أول الأمر كرجل أعمال متميز ولا أبالغ إن قلت أن كثيرين حلموا وتاقوا الى محاكاته و كأن لسان حالهم يقول ( يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) . لقد ابتسمت الدنيا للرجل على حين غرة وارتقى في سلّم الپـاتـْرونا انوكشوطية بسرعة خارقة وحقق بطولات تحوم حولها أساطير وشبهات لا يهمنا التوقف عندها في هذا المقال المختصر.

إن المرحلة التي تسترعي اهتمامنا من سيرة الشخص العمومية وهي الأهم أيضاً فيما أعتقد بالنسبة للقراء و الأدعى للاستياء هي تلك المرحلة التي شهدت التدخل السافر للرجل وحاشيته في صناعة السياسة والشأن العمومي في الدولة الموريتانية. الوقائع على الأرض متوفرة للتدليل على ذلك فكم مرة لوحظ تهور المال السياسي على يديه و في حالات تــَـلـبــس اكثر من ان تحصى منذ العهد الطائعي كالغلول في التعامل مع السلطات وشراء الذمم وتمويل الانتخابات الوطنية بالأموال المرتدة والمستردة من الضرائب.

وهنا من باب الإنصاف أعرف كما يعلم القرا ء الكرام أن السيد بوعماتو ليس هو وحده "المتهم العمومي" في هذا المضمار يتعلق الأمر بتسعة رهط من التجار الكبار لعلكم تعرفونهم بسيماهم بأفاعيلهم من قبيل "الفَكـْترة "المزورة و الرشاوى الظاهرة والباطنة بالإضافة الى كافة أنواع المؤامرات التي تجري من تحت الطاولة للاستيلاء والاستحواذ على الصفقات العمومية في جو يفتقر للشفافية وتكافؤ الفرص.

هذا وما زال البلد برمته يعاني من مؤامراتهم وإفسادهم للذمم بالدراهم والدنانير. وقد نتناول في مقالات لاحقة ان شاء الله نشر بعض الحقائق حول ما جنته أياديهم من جرائم حسية ومعنوية ضد موريتانيا ومستقبلها بالتواطؤ والتآمر مع سابق الإصرار والترصد.

لكن ، من منطلق التحليل التدريجي المبني على تفكيك الإشكالية ارتأينا التركيز في هذا المقال على ظاهرة بوعماتو فقط ومن من خلال زاويتين لا أكثر :

١- زاوية تهور المال السياسي

إننا كديمقراطيين نعتقد انه لا شي ء أكثر إفسادا للديمقراطية من تلطخ صورة رجال الأعمال بشائنات السياسة والشيء نفسه ينطبق على العسكر عندما يلهيهم جمع الأموال عن التفرغ لمهامهم النبيلة.

إن كل المناصرين للديمقراطية وكل اصحاب النوايا الحسنة اتجاه موريتانيا لا بد ان قلوبهم استنكرتْ او أنكرتْ يوما مّا ولو نزراً من تَهــَــوّر المال السياسي الذي حصل على يديْ السيد بوعماتو حين خرج مناديا بقبول الانقلاب على الشرعية سنة 2008 و خصوصاً تحالفه مع شياطين الماسونية لتبريره وتسويقه للعالم.

نعم، يتذكر كثير من الموريتانيين بأسىٰ ذلك اليوم الذي اسْـتَجْلبَ فيه السيد بوعماتو " زلماً " من أزلام الاسترزاق الدموي على حساب الشعوب المستضعفة.... انه المحامي اللبناني المتابع قضائيا المدعو: روبر بورجي. من تجرأ على إقحامه في الشأن الموريتاني-الموريتاني؟ نعم ! للأسف السيد بوعماتو ذاته هو من تجرأ على فعل ذلك وأتى بالعميل بورجي إلى قلب نواكشوط وعلى رؤوس الأشهاد دون استحيا ء و حينئذٍ انجر المرشح عزيز آنئذ للظهور العلني مع الرجلين ربما عن جهل بالتاريخ أو ربما بتجاهل "ساذج" او ربما بسبب غفلة عابرة عما تقتضيه السياسة من تحفظ وتجنب للتحالفات المشينة (يوجد توثيق بالصوت والصورة لذلك المشهد المظلم و المنكر من السماح للمرتزقة بالتدخل السافر في الشأن الوطني).

٢ - الزاوية الثانية: تتعلق بإستراتيجية الربا الفاحش في حق المؤسسات العمومية

ما من شك في أن كثيرا من الموريتانيين يتذكرون حكاية الثراء الفاحش للسيد بوعماتو خصوصا بعد انشاء البنك العام وتبني استراتيجية الربا الفاحش على حساب المال العام والتي تجلت بعض فصولها في قصة الفوائد المتراكمة التي افترضها و فرضها بوعماتو بشراهة على حساب شركات عمومية أبرزها صونلك وسونمكس هذا بالإضافة الى عمولات سابقة ولاحقة صُـرفت عنوةً لبنكه عبر رسائل سرية تكبدت فيها الخزينة العامة للدولة خسائر مجحفة حيث اضطرت تحت ضغط اللوبيات الى دفع مليارات الأوقية في وقت قياسي على شكل فوائد ربوية مجحفة ومبالغ فيها بشكل يفوق كل حدود المنطق المهني حتى لو استمرأ البعض التغاضي عن حرمتها ومضارها المجتمعية.

ما من شكٍ في أن السيد بوعماتو نجح في البد ء كرجل أعمال ولكن ما كان له أن يلوث نجاحاته في دنيا المال والأعمال بأشياء أخرى كالمبالغة في التدخل السياسي وإقحام الأجانب في الشأن المحلي بطريقة فجة لا تحترم مشاعر الموريتانيين وكرامتهم.

رغم ذلك لن نسعى لتسويد اللوحة الشخصية إلى درجة العتامةِ المطلقة ...لذا نعترف بأن الرجل لم يفشل في كل شي ء.....كلا! لقد كانت له نجاحات مبهرة و إنجازات رائدة ربما! ...لكن كل تلك الانجازات تذبل وتقبُح حين يُضاجِعها غول التهور السياسي أو تشوبها شبهات الربا الفاحش الذي لا يمكن أن يدوم لصاحبه معه نفع مبرور ....رغم ما قد يحاوله عن طيب خاطر كمؤسسته الخيرية في مجال طب العيون والتي تنم عن خلق أصيل يذكر فيشكر بل ويشكل في حد ذاته خطوة رائدة على صعيد العمل المدني الإجتماعي وإن لم تكن بالضرورة موفقة على الصعيد الروحاني إذْ أنّ المتعارف عليه في الروحانيات الدينية ان المال الربوي لا تستطاب ثماره ويُخشى مآله ولا يقبل حتى ان يُصنـّف كصدقة جارية لأن الله طيب لا يقبل الا طيبا وفق منطوق الحديث النبوي الشريف.

من الطرائف في هذا المعنى قصة المومِس التي تزني وتحاول ان تُخفف على ضميرها بالتصدق مما جنته من كد عرضها.

كما قال الشاعر:

بنى مسجداً لله من غير حلِّه

فكان بحمد الله غير موفقِ

كمطعمة الأيتام من كد فرْجها

لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي!

ثم إنه من الظواهر التي باتت للأسف متفشية في مجتمعنا - ظاهرتي٥ الهرولة الى السراب وظاهرة اتّصفاگ الأعمى.

من الأمثلة على ظاهرة الهرولة الى السراب ما خرج من بيانات المعارضة مدّعية حصول استهداف قبل ان نسمع كلام كل الأطراف ...فهل يوطد هذا فرضية ان المعارضة دأبت على الهرولة لمحاولة التقاط كل من يسقط وما يسقط حتى وإن كان في حكم الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع معنوياً!؟

ومن الهرولة الى السراب أيضاً ما حصل من تصرف شائن من قبل بعض الصحفيين الذين انحازوا لفرضية الإستهداف وتناسوا دورهم في تنوير الرأي العام دون تحيز لطرف بل وذهبت بعض المواقع إلى الإيغال في" اتصفاگ " ونشرت فيها احدى المصفقات ل بؤ عماتو- بيانا مليئا بالمن على الدولة والشعب مدعية تذكيرهم بأفضال بو عماتو وذهبت الى حد الإستدلال المباشر بآية من سورة الرعد لتفخيمه واعتباره مما يمكث في الارض بينما الواقع عكس ذلك. اوَ لم تعلم بنت الفاظل أن الحقيقة هي أن الربا وأهله هم من الزبد الجفاء وقد كان بنك بوعماتو من اشد البنوك فتكا بالمال العام من خلال الفوائد الربوية الماحقة!

فعلا! ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى (اذا لم تستح فاصنع ما شئت) والحقيقة لقد جاءت رغبتي في كتابة هذا المقال بسبب هذا النوع من التصفيق المذل والمهين والذي لا يتوانى ولا يتناهى أهله عن ليّ أعناق آيات الذكر الحكيم خدمة لمآربهم الشخصية او تلهفاً الى حظوة من دنيا فانية. أوٰ لم يعلموا أن الربا زبد ولا غرو أن يذهب جفاءً فعاقبته الى قِــلٍ. بحكم المفهوم الإجماعي للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي منها ما نص نصاً بيـِّناً على أن ممتهني الربا ملعونون الى أبد الآبدين كما جاء في حديث مشهور لجابر ابن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي نص القرآن الكريم: يمحق الله الربا ( ينظر القارئ في ذلك ان شاء الآية رقم ٢٧٥ وما تلاها من سورة البقرة.) (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يتخبطه الشيطن من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا.)

هذا و تجدر الإشارة الى أن ما قدمته هنا من قراءة في ظاهرة بوعماتو يجب ان لا يعتبر تبرئة لرجال أعمال آخرين ...كلا! ثمة رجال أعمال كثر يتحينون الفرص للتحايل على القانون والتآمر على المشروعية عبر قنوات الوساطة والمحسوبة. و ثمة بلا شك وطنيون خلّص و أكثر مسايرة للقانون ...لكنهم قليلون فيما يبدو ليس تعمدا وإنما عن ضعف في الإدراك المؤسساتي لأن لثقافة المؤسسية أصلاً ما زالت ضعيفة وضعيفة جدا في بلادنا. هنا أنتهز الفرصة لأتجاوز حيز المشاهدة والتنظير الى حيز الاقتراح البنّاء.

أقترح على الپاترونا والشركاء الاجتماعيين عمل تصنيف سنوي لرجال الأعمال الأكثر تميزا من حيث المسؤولية المجتمعية ومن حيث الأداء الضريبي. و هكذا يمكن أن نحرك الأمور نحو وعي أكبر لدى رجال الأعمال بمسؤولياتهم المجتمعية.

أوَ ليس بإمكان رجال الأعمال عندنا ان يحققوا كل ما يحلو لهم من ثراء دون الاسراف في التآمر على المال العام ودون الإيغال بشراهة في الربا الفاحش ؟ أوَ ليس بإمكانهم ان يتصرفوا كرجال أعمال لهم صفة شركاء حقيقيين في التنمية لا وهميين ولا متهربين من الضرائب؟

أوَ ليس بإمكانهم أن يكونوا رجال أعمال اجتماعيين من صنف محمد يونس مثلاً ذلك المصرفي العملاق الذي أسس بنك الفقراء Grameen Bank ونال عليه جائزة نوبل للسلام سنة 2006. لمَ لا؟

إني لن أفقد الأمل في رجال الأعمال بأرض شنقيط فهي أرض الرجال النشامىٰ ..ولذا مهما حصل فسأتمسك بالعروة الوثقى راجيا أن تلد أمهات موريتانيا رجال أعمال كباراً من أمثال محمد يونس بل وأكثر وأنبل وأصدق وأقدر على التوفيق بين الثراء الشخصي المشروع والالتزام الوطني الأخلاقي بأبهى صوره وأنصعها.

ختاما لهذا المقال المختصر ، كلي أمل في ان يلقى المقترح التصنيفي ( rating) الذي أشرت اليه آنفا قبولا و تفهّما من قبل الپاترونا أنواكشوطية و أن تشهد الساحة الوطنية نقاشا مستجداً لكل ما من شأنه أن يقلل من ظواهر التهرب الضريبي أو يُسهم في توفير بيئة استثمارية أكثر شفافية وأكثر إحساسا بالمسؤولية المجتمعية لدى رجال الأعمال.

بشير شيخنا محمدي / أستاذ جامعي مقيم بفرنسا

30. يناير 2013 - 22:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا