محمية الفيسبوك الافتراضية / المصطفى ولد محمد ولد البو

بحثتُ كثيرا عن مثال بسيط أوضح من خلاله طبيعة وضعنا على الفيسبوك وأعتذر إن كان جريئا نوعا ما، نحن أكرمكم الله نشبه إلى حد كبير تلك الحيوانات البرية التي تشاهدونها على ناشيونال جيوغرافيك والتي تؤمن فعلا أنها تعيش بحرية تامة في براري شاسعة لا تنتهي مهما قطعت من مسافات وفي أي اتجاه تختاره، لكن الحقيقة أن كل هذه المساحة ليست سوى محمية طبيعية وهذه الحيوانات تعيش في سجن حقيقي فعلا يخضع لرقابة صارمة ومعرضة فيه للتخدير والتجارب بمختلف أشكالها وحتى التخلص منها ببساطة.

نفس الأمر يحدث تقريبا على الفيسبوك، فالموقع يكسب مئات ملايين الدولارات من خلال توجيهنا كالقطيع نحو إعلانات معينة بالاتفاق مع المُعلن، لأننا أكرمكم الله نحتاج عصا فقط يهش بها علينا فنشاهد مرغمين هذه المقتنيات المعروضة وأحيانا اسمع البعض مستغربا من ظهورها أمامه فأفهم في الحال أنه مثلنا من القطيع.

ليس هذا فقط فالفيسبوك يكذب علينا دائما قائلا إن هذا المقطع أو هذا الربط أو الخبر أو هذا الإنفوغرافيك يحظى بتفاعل كبير ليترك لديك انطباعا بضعف الاطلاع فتتفاعل معه لتعويض ذلك الشعور بينما الحقيقة أنه يوجهنا عمدا نحو محتوى سياسي يكون غالبا داعما لليمين المتطرف الذي لعب الفيسبوك دورا كبيرا في نشر ومشاركة ودعم وجهات نظره بالتزامن مع إغلاق صفحات المقاومة الفلسطينية التي دأب على حجبها عنك رغم التفاعل الكبير ومن هنا يمكن فهم هذه النقطة

نكرر دائما كموريتانيين أن مارك زوكربيرغ كريم جدا وأنه أعطانا مساحة كبيرة من الحرية ثم رمى هذا الخير في البحر كما يقال وألا أحد يستطيع أخذها منهم، في الحقيقة أن هذا التصريح يعكس سذاجة كبيرة، لأن مارك لم يعط أصلا هذه المساحة بل جعلك تقتنع أنك مالك بينما الحقيقة أنك مجرد مقيم مؤقت يخضع لقوانين صارمة وحريتك موجهة نحو بلدك فقط وأحيانا كثيرة التحريض عليه أيا كان هذا البلد المهم ألا يكون من البلدان المقدسة عند السيد مارك.

لكن إن صدقت شعار الفيسبوك وحاولت تطبيقه على الموقع فسيظهر لك وجهه الحقيقي وزيف الحرية التي يرفع، الموقع لا يسمح باستخدام تعبير اللعن لأنه يعتقد أنه يوجه لليهود عادة فتستنفر خوارزمياته بسرعة خاطفة فيقوم بحظرك مباشرة لكنه بالمقابل يسمح بجميع أشكال السب والشتم وحتى التحريض على قتل المسلمين إلى جانب حظره لأي نوع من أنواع التضامن أو الدعم لغزة ومقاومتها، مع دعم الشذوذ الجنسي وحظر كل مناهض له.

الفيسبوك لا يهمه إن شتمت بلدك وحرضت عليه أو زعزعت استقراره كلما يهمه هو الخطوط الحمراء الخاصة به التي رسمها وعدم تجاوزها، ثم استخدامك كأداة للتربح والتوجيه والتجنيد.

لا شك أنك لاحظت الظهور الغريب والمتكرر للمقاطع الخاصة بالقناة الألمانية الناطقة بالعربية وبرنامجها المتخصص في مهاجمة القيم الإسلامية ومقاطع أخرى كثيرة ومختلفة تناقش كلها ما نعتبره كمسلمين من المسلّمات أي أنها أمور أغلق القرآن فيها أبواب الاجتهاد والتأويل ومع ذلك يحرص الموقع على تسويقها أمامك كمادة للنقاش بشكل مبالغ فيه لجعلك تشك أولا ثم يمهدك لدخول هذه الجوقة ثانيا.

يحرص الفيسبوك أيضا وبطرق ناعمة تعتمد على عوامل نفسية على تسويق مفهوم White supremacy أو تفوق العرق الأبيض على ما سواه من الأعراق، هذا يظهر جليا في حرصه على نشر الثقافة والقيّم الغربية نقية ومثالية بشكل مستفز بالإضافة إلى تحفيزك على تقبّل مظاهر وسلوك يتعارض مع قيّمك وثقافتك ومحاولة إقناعك بأنها أمور طبيعية وبأنك وحتى تكون منفتحا وتنويريا عليك أن تتقبلها.

إذن الفيسبوك ليس منصة تواصل اجتماعي فقط بل منصة لها أهداف سياسية وأيديولوجية بالدرجة الأولى.

هذا الموقع عبارة عن جهاز استخبارات متكامل بفروعه وأقسامه لكننا نوفر عليه الكثير من العمل بنشر كل شاردة وواردة و يصل الأمر بالبعض بنشر أسرار عسكرية وتحرك و انتشار لقوات أمنية، كما أننا نسهل عليه كتابة التقارير التي يصنفنا من خلالها فيتوصل بسهولة إلى أي نوع من الناس نحن أو- أي نوع من فئران التجارب بشكل أدق- و بالتالي يبيع إحصائيات خاصة بنا لمراكز بحثية و يرسل أخرى لأجهزة استخبارات يتعامل معها و يوجه البقية نحو إعلانات فيجني أموالا طائلة منها و بالتالي لا تقل أنك لست مهما أو معلوماتك أو منشوراتك غير مهمة، كلما سبق مهم فمجرد فتح حساب على الفيسبوك، يبدأ الأخير بالاستفادة منك بطرق مختلفة و بالنسبة لك فالاستفادة منعدمة تماما فوقتك ضائع و جهدك أيضا و تعيش أحلام يقظة كاذبة تُظهرك حرا و مستمتعا بينما الحقيقة أنك تجري في محمية مُحكمة الإغلاق لا تملك فيها من الحرية سوى ما حدده لك مارك زوكربيرغ نفسه.

هذه المحمية التي تضم سكّان الأرض ومنذ افتتاحها عام 2004 وهي تدرس وتبحث أفضل الطرق التي يمكنها من خلالها التحكم فينا، مؤخرا وصل إبداعها إلى درجة النجاح في التحكم وتغيير مزاج ومشاعر المستخدمين وإن اعتذر الموقع عن هذه التجربة المخزية لاحقا إلا أنها تعكس درجة خطيرة من انعدام الضمير والأخلاق، أما بالنسبة لمعلوماتك الشخصية وأي المطاعم أو المناطق زرت أو من هم أقرباؤك ومعارفك أو من التقيت بهم لثوان ودينك وحالتك العاطفية وطريقة تفكيرك، كلها أمور بسيطة تظهر مستوى الرقابة المتطور الذي تخضع له المحمية.

الفيسبوك يكرر دائما أنك أي عزيزي المستخدم هو المتحكم الفعلي في بياناتك بينما الحقيقة أن خصوصيتك كذبة كبرى حتى التي تختار لها خاصية Only me مستباحة وكذلك شريط الأخبار الذي يظهر لك تم اختياره بعناية عبر مجموعة ضخمة من الخوارزميات.

إذن عزيزي وجاري في هذه المحمية الافتراضية، المعركة معركة وعي، ونحتاج فيها لأسلحة فكرية وثقافية نواجه بها هذا التيار الجارف الذي أصبح يسيطر حرفيا على حياتنا ويمنعنا من التفكير والإبداع خارج صندوقه الذي يحتجزنا فيه، وإلى ذلك الحين الذي نكون فيه قادرين على النهوض اقتصاديا وتكنولوجيا، يجب علينا عدم الانجرار بشكل كامل مع هذه الموجة وأن نحافظ على ما تبقى لدينا من قيم وخصوصية وأن نحافظ على أجيالنا القادمة بعيدة عن هذه المحمية الكارثية.

14. يونيو 2021 - 8:06

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا