في الواحد والعشرين كانون الأول من العام ألف وتسعمائة وتسعين بدأت نشرة الأخبار في التلفزيون الرسمي للاتحاد السوفيتي كما يلي: إليكم نشرة الأخبار: الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودا بعد الآن.
كان ذلك الخبر صادما ومفاجئا للمجتمع الدولي ككل ولشعوب الاتحاد السوفيتي التي عاشت على أمجاد إمبراطورية كان الغرب يحسب لها ألف حساب. ولكنه إعلان لم يكن مفاجئا للمعسكر الغربي بتاتا فقد عمل للوصول إلى هذه اللحظة بشكل حثيث.
فقد استطاع الغرب تجنيد ضابط سوفيتي وكلفه بمهمة وحيدة من شأنها لاحقا أن تدمر المعسكر الشرقي بقوة ناعمة لم تكلفه عناء حبر سري ولا رسائل مشفرة ولا معرفة العتاد ولا إرسال أي تقرير على الإطلاق.
كان رجلا مخلصا مؤمنا بالنظرية الاشتراكية وأكثر الساسة دفاعا عنها وقد وضع تحت مجهر الكي جي بي لمرات عديدة فلم يستطع أحد أن يؤخذ عليه شيء. كان يملك أبسط مهمة جاسوسية على الإطلاق وأكثرها فاعلية. مهمة تبديد الطاقات البشرية وتقزيم الكفاءات العلمية والإدارية فاستحال المعسكر الشرقي بعد سنوات إلى كيان هزيل لم يكلف الغرب عناء تحريك قطعه العسكرية لشن حرب نووية قد تأتي على الأخضر واليابس.
فلست محتاجا في تدمير دولة وإفقارها أن تحيك ضدها المؤامرات ولا أن تخوض عليها حربا ولا أن تفرض عليها طوقا اقتصاديا خانقا ولا هم يحزنون يكفي فقط أن تضمن أن على رأس إداراتها مدراء فاشلون وعمالا لا يتقنون مجالهم ثم ول عنهم وسيتكفلون لك بالموضوع.
فمن المعروف في فقه الإدارة أنه لا توجد مؤسسة ناجحة ولا أخرى فاشلة توجد فقط مؤسسة تدار بشكل جيد وأخرى تدار بشكل سيء.
فما هي الإدارة؟
وما دور المصادر البشرية في نجاحها من عدمه؟
وأين موريتانيا من كل ذلك؟
يعرف تايلور.1911 الإدارة بأنها **القيام بتحديد ما هو مطلوب عمله من العاملين بشكل صحيح. ثم التأكد من أنهم يؤدون ما هو مطلوب منهم بأفضل الطرق وأقل التكاليف**
كما يعرفها العامري الغالبي بأنها **عمليات فكرية تنعكس في الواقع العملي على شكل ممارسات في مجال التخطيط والتنظيم والقيادة والرقابة للموارد البشرية والمادية والمعلوماتية. وتؤدي إلى تحويل هذه الموارد إلى سلع أو خدمات تنتج بشكل فاعل وكفؤ محققة الأهداف التي تمت صياغتها مسبقا**.
ومن خلال تعريف تايلور نلاحظ أن الأداء له مقياس وهو أفضل الطرق وأقل التكاليف بيد أن غير المتخصصين حتما قد يحققون الأهداف بعد استنفادهم لأسوء الطرق وأكثر التكاليف. فإن عرجنا على تعريف العامري للإدارة فأول ما بدأ تعريفه بأنها عملية فكرية لأن التفكير أساس المنطلقات الصحيحة ولا يمكنك التفكير والإبداع في مسألة لا تعلم عنها شيئا. وهو في تعريفه يوضح المرتكزات االأساسية للإدارة والقائمة على التنظيم والتخطيط والرقابة والقيادة والأداء.
فهي إذا ليست عملية عبثية يمكن لأي كان أن يكلف بالقيام بها بقدر ما هي مسؤولية جسيمة يجب أن يتحرى لها الأكثر قدرة والأعمق خبرة وارتباطا بمجالها بل إن بعضهم ذهب إلى أن رأس المال البشري ممثلا بالطاقات ذات الكفاءة هو اهم عنصر من عناصر الإنتاج وأهم أصل من أصول المؤسسة.
ومن هنا يبرز دور اختيار الكادر البشري المناسب للمهمة التي تناسبه. فالطبيب للطب والأستاذ للتدريس والإداري للإدارة والحرفي في الحرفة التي يحسنها. فإدارة المصادر البشرية تماما كإدارة وسائل الإنتاج المختلفة من خلال توظفيها في المجال الذي يجب أن توظف فيه واستعمالها في غيره أو استعمال غيرها محلها هو نوع من الهدر والتعطيل.
فعملية اختيار المدراء أشبه بعملية وضع أداة الإنتاج في محلها المناسب. ويعرف المهتمون بالإدارة المدير بأنه **شخص في مؤسسة يكون مسؤولا عن أداء مجموعة من المرؤوسين بغرض تحقيق الأهداف المرسومة من خلال ما يقوم به من وظائف تخطيطية وتنظيمية وصنع واتخاذ قرارات قيادية ورقابية عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد البشرية والمالية والمادية والمعلوماتية**.
وعليه ومن خلال التعريف فإن الإدارة أمانة كونها عملية فنية بحتة تستدعي امتلاك المهارة من أجل قيادة الفريق المتجانس والذي يعمل ككتلة واحدة في مجال يتقنه ويسعى لتحقيق أهدافه المرسومة اعتمادا على المرتكزات الإدارية آنفة الذكر.
وجاء في الآية 26 من سورة القصص قوله تعالى ** قالت إحداهما يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الأمين **صدق الله العظيم
يقول أبو البركات حافظ الدين النسفي في تفسير الآية ** ورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته وقوته أمران محققان**
. وقولها ولازال الكلام له ** إن خير من استئجرت القوي الأمين كلام جامع. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم على عملك فقد فرغ بالك وتم مرادك**.
لقد انتبهت الدولة الموريتانية مبكرا لأهمية المصادر البشرية الإدارية والمكونة في إطار مجالاتها المختلفة فأنشئت مدارس تعنى بتخريج الكوادر حسب أنشطة المرافق العمومية كالمدرسة العليا للأساتذة ومدرسة تكوين المعلمين ومدارس للصحة كما أنشئت مدرسة وطنية للإدارة عهد إليها بتخريج الكوادر البشرية المؤهلة في مجال الاختصاصات الإدارية المختلفة سبيلا لدمقرطة الإدارة الموريتانية والرسو بها إلى بر الأمان شأنها في ذلك شأن عديد البلدان حول العالم. كالجمهورية الفرنسية التي أنشأت أول مدرسة وطنية للإدارة في العالم سنة 1945 حيث تعتبر أعرق المدارس العليا بفرنسا وتخرج منها كبار المسؤولين السامين في الدولة.
وقد خرجت المدرسة الوطنية للإدارة بنواكشوط عديد الكوادر الموريتانية الذين خدموا في مجال السياسة الخارجية والاقتصاد والمالية وغيرها من القطاعات الإدارية حيث أثبتوا نجاحهم وجدارتهم ثم تخرجت منها أول دفعة باسمها الجديد وهو المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء وهي دفعت ضخت دماء جديدة في شريان الإدارة الموريتانية وأعادت لها حياتها الشبابية.
ولعل أكبر معضلة تواجه المتخرجين الإداريين أنهم ينتمون لأرضية على الرغم من أهميتها إلا أنها أرضية مستوطنة فلا يزال القادمون من بعيد يزاحمون أهل الاختصاص في ميدانهم.
فالإدارة تخصص كباقي التخصصات كالطب والتعليم والفن وغيره. فلا يمكن أن يزاحم الطبيب من ليس طبيبا ولا الأستاذ من ليس أستاذا مثله. إلا أن هذا الأمر لا ينطبق على المجال الإداري بتاتا فهو المجال الذي اختاره السياسيون لمكافئة أنفسهم. ولعل ذلك هو ما يلخص مجمل مؤاسي الإدارة على مر العصور.
فمتلازمة الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب لم تزل أثرا مترتبا على ترك الإدارة مسرحا تشاركيا بين الإداريين وغيرهم. وهو الأمر الذي يستدعي إعادة تحرير الإدارة وتأمينها بالقوانين الناظمة حتى يقتصر مجالها على أهل الاختصاص.