لقد ارتبطت التغيرات الكبرى في المذاهب الأدبية والفنية بتحولات اجتماعية عميقة، ذلك أن الأدب مرتبط بأفراح الإنسان واتراحه، وهو المرآة العاكسة لقضايا المجتمع تأثيرا وتأثرا.
ومنذ القدم كانت الروايات والقصص الأدبية تستشرف آفاق المستقبل خوفا من المجهول، وتتصور بأداة الخيال كل الصراعات والمحن والكوارث التي قد يتعرض لها المجتمع الإنساني، وكان لذلك التصور أحيانا منحى استفزازيا يبالغ في التشاؤم والكراهية التي تطبع بعض أفراد المجتمع على حساب البعض الآخر، مما جعل بعض الكتاب الغربيين يجعل البعض حالة الخوف مستعدا للعيش ولو بأكل لحوم البشر.
لكن وباء كورونا المستجد والذي ظهر فجاة بالصين وانتقل منها عبر أصقاع الأرض أحدث خلخلة جديدة في المفاهيم، وبدل الرؤى والتصورات القديمة، حينما شعر الإنسان أنه لا يستطيع العيش لوحده، وان الحجر الصحي والتباعد والكمامات كلها أمور من اجل الخوف من العدوى، والقيام بها واجب من اجل المحافظة على البشرية بعد ان أصبح عصر العولمة يجمع الناس في قرية كونية واحدة.
تأثر الإقتصاد فأفلست الشركات، وتوقفت المصانع والطائرات والسفن عن الحركة، واصبح الذعر والهلع سيد المو قف، بعد ان اصبحنا نشاهد آلاف الجثث هنا وهناك، فهل تأثرت الثقافة والعلوم بهذا الوباء؟
لقد كان لإغلاق المدارس والجامعات تأثير كبير على التعلم، مما اوجد آليات جديدة للتعلم عن بعد، وهو ما جعل حديث الإعلام والتوعية يعج بمفردات صحية وأحاديث عن الزائر الفاتك الخفي.
إن المعجم اللغوي تاثر و ذلك لأن الوباء بعث مصطلحات صحية وعلمية من قبيل الحجر والكمامة اللذان كانا في حقل آخر، كما كان للشعر دوره في التوسل والدعاء والتعبير عن الكارثة وتصويرها بأساليب مختلفة، لكن السرد هو المستفيد الأول من الجائحة، حينما أصبح الخيال واقعا، فظهرت المسرحيات، والقصص، ودون البعض روايات جميلة جمعت بين الماضي والحاضر، وباستطاعة المسرح ان يستفيد منها لاحقا، هذا ولا يتوقع الباحثون أن يؤدي وباء كورونا إلى ظهور مذاهب أدبية، لكن تفشيه بهذه القسوة وضرباته العمياء في كل اتجاه، قد تستدعي أفكارا جديدة إلى مضمون العمل الإبداعي.
إن فكرة المصير الإنساني الموحد ستكون على رأس القائمة، ذلك أننا للمرة الأولى نرى بسطوع سقوط قوة المال والمناصب وعجز العلم وحيرته أمام الوباء، وفي المقابل نشهد الحاصدة التي تقطف الرؤوس من دون تمييز بين أبيض وأسود، غني أو فقير.
إن تطور القرية الكونية الواحدة، وضرورة مكافحة الفقر والجهل والمرض، ونبذ القهر والغبن والتغول، تصب في وحدة المصير الإنساني المشترك في الخوف من المجهول ومقارعة الكوارث الطبيعية، وهي جملة قد لا تكون جديدة، لكن صوتها كان خافتا ووجهها شاحبا، والآن يضعها الوباء أمام أعيننا على شكل قضايا ملحة، أظنها ستحظى باهتمام المبدعين، مثل قضية أنه لا نجاة لأحد بدون الآخرين، ولا نجاة للآخرين من دون اي فرد، وربما تكون تلك النغمة المعزوفة الأولى التي سنسمعها، بتوزيع مختلف في كل مرة من عالم الإبداع، ولا بد أننا سننصت في الإبداع الحقيقي إلى هذه التنهيدة التي أطلقت الأرض، والتي وصل صداها عنان السماء، والتي لاشك اننا سنحس حرارتها وإن بطرق مختلفة، إنها معاناة، ومن رحم المعاناة يولد الإبداع، والابتكار، وتتجدد الوسائل لتحقيق الغايات، والوصول إلى الأهداف المنشودة من طمأنينة وأمن ورخاء، ولن يستطيع ان يعبر عن هذه المعاناة إلا الحب بوصفه عاطفة إنسانية نبيلة تلوذ بالإنسان وتلفظ الانعزال والأنانية، وتحفز وتدفع المبدع على الكتابة، فرب محنة جاءت في ثوب منحة، وقديما قيل إن العدو الخارجي يوحد الصفوف الداخلية ويرمم الجراحات، ويقوي العزيمة، ويدفع الإرادة إلي المستحيل من أجل كسب الرهان، وهو ما حصل بالفعل.
إننا نشاهد اليوم أكثر من عشرات اللقاحات في اطوارها النهائية، وبعضها تجاوز مراحل التجريب إلي التفعيل، فهل سنشاهد قفزة أدبية جديدة واتجاهات شعرية وسردية متطورة، وأعمالا ادبية حديثة لا يهدف أصحابها للمتاجرة بالأدب، وإنما هدفها وموضوعها هو الإنسان مابعد الوباء، أعمالا تزرع الأمل، وتنزع الأشواك، وتدعو للمحافظة على المشتركات الإنسانية، بإشاعة قيم التسامح والمحبة ونبذ الصراعات في سبيل البقاء، بعد ان أصبح الإنسان مهددا في كيانه حيثما حل وارتحل.