سعت موريتانيا منذ تأسيسها حتى اليوم إلي مواكبة ما شهدته من نمو اجتماعي واقتصادي وثقافي ...... عبر مختلف مراحل تطورها ،من خلال ما عملت علي وضعه من مبادئ وقواعد تتعلق بسياستها الجنائية ، تلك السياسة التي تتحدد أبعادها وتتضح معالمها وتختلف قواعدها حسب نوع وطبيعة ما تشهده
البلاد من تغير وتحول في كل مرحلة من مراحلها ، مما يؤكد حقيقة التباين
والاختلاف الحاصل في نوع وجوهر السياسات الجنائية التي تم انتهاجها في
البلد ، ويفرض علي الباحثين والمهتمين بهذا المجال معالجة العديد من
الإشكالات المتعلقة في مجملها بمدى مساهمة تلك القواعد والإجراءات بشكل
جاد في إقرار العدالة الجنائية وفرض هيبة واحترام القانون بما يحقق ردع
ما يصدر عن أي فرد أو مجموعة من تصرفات مضادة للنظام الاجتماعي ؟ وما
توفره من أسباب للوقاية من الجريمة انطلاقا من تركيزها علي العديد من
المجالات كسياسة التجريم والعقاب وسياسة المنع والوقاية والتأهيل
والإصلاح ؟ وما تقوم بإقراره من عقوبات بديلة ، ووضعه من آليات كفيلة
بإلقاء القبض علي المجرمين ، واتخاذ إجراءات المتابعة وإصدار الأحكام
القضائية وتنفيذها وفق ما هو منصوص عليه قانونا ......وفي ظروف مواتية
وضمن آجال معقولة ؟.
غير أن تقييم السياسة الجنائية للبلد لا يمكن أن يتأتي ما لم يتم التطرق
ولو بصورة مقتضبة لمفهوم السياسة الجنائية والخوض في العديد من
الإشكالات التي ظلت مثار جدل بين الكثير من الباحثين والمهتمين بالحقل
القانوني والمرتبطة في واقع الأمر بما تثيره السياسة الجنائية من
إستفهامات وتطرحه من تساؤلات تتعلق في جوهرها بظروف نشأتها والجهة
المختصة بوضع مبادئها وقواعدها وبتنفيذها وتطبيقها.
فمصطلح السياسة الجنائية قد ظهر أول ما ظهر في القرن التاسع عشر علي يد
الفقيه الألماني فيورباخ حينما أعتبر السياسة الجنائية بمثابة ما تقوم به
الدولة من إجراءات وما تتخذه من وسائل وتدابير لمكافحة الجريمة بأكبر قدر
من الفاعلية ، بحيث ظل مفهوم السياسة الجنائية حتى مطلع القرن العشرين
يتأرجح بين ما نص عليه القانون الجنائي من جرائم وعقوبات وما تم تحديده
من تدابير وإجراءات في إطار البحث والمتابعة والمحاكمة والتنفيذ فلم تخلو
أيا من التعريفات التي أطلقها فقهاء القانون خلال تلك الفترة من الاعتماد
علي وجه من تلك الأوجه أوعليها جميعا .
علي أن ما شهدته الجريمة من تطور في العصر الحديث وما فرضته علي الدول من
تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية.......دفع بالفقه الحديث إلي تجاوز
المفهوم التقليدي للسياسة الجنائية ، بحيث لم تعد مقتصرة علي مواجهة
الجريمة فقط وإنما أصبح من اللازم تشخيص وتحديد ورصد الأسباب المؤدية إلي
الظاهرة الإجرامية ووضع الوسائل والحلول الكفيلة بمحاربتها والقضاء عليها
، إذ لم تعد المسألة تتعلق بالحقل القانوني لوحده وإنما تجاوزته إلي
ميادين أخرى اجتماعية واقتصادية وإدارية ...... فلم يعد سن القوانين
الجزائية وتشديد العقوبات الوسيلة الناجعة للقضاء علي الظواهر الإجرامية
وإنما أصبح إلي جانب ذلك التركيز علي الأسباب المؤدية إلي انتشار الجرائم
وارتكابها من أهم العوامل التي يمكن من خلالها وضع الوسائل المناسبة
للتصدي لتلك الظواهر والحد من انتشارها ، الشئ الذي أدي إلي اختلاط
الطبيعة الفقهية والقانونية بالطبيعة الاجتماعية والأبعاد الاقتصادية
وغيرها في التشريعات المعاصرة مما يمكن معه القول بأن السياسة الجنائية
ماهي إلا ردة فعل اجتماعي حيال الجريمة عن طريق مجموعة من الأدوات
والوسائل المشكلة من خليط مكون من مختلف العلوم الجنائية كعلم الإجرام
وعلم النفس الجنائي وعلم العقاب .........والهادفة فقط ليس إلي معاقبة
المجرم وإنما إلي منع الجريمة ومكافحتها والتصدي لمرتكبها من خلال وضع حد
في المستقبل لسلوك الجاني سبيلا لعلاجه عقابيا أو إخضاعه للإصلاح وإعادة
التأهيل داخل المؤسسة العقابية المعتقل بها .
وانطلاقا من تلك المقاربة يتضح بجلاء ارتباط تطور القانون الجنائي
بالسياسة الجنائية في البلد ، إذ من خلال ما يتعين إقراره من مبادئ بفعل
ما تفرضه المستجدات ، يهتدي المشرع إلي وضع القواعد والنصوص القانونية
اللازمة لمحاربة الجريمة ، كما يهتدي القاضي بوصفه مسئولا عن تطبيق تلك
النصوص إلي الأسلوب الملائم لذلك ، مما يعني أن السياسة الجنائية لا يمكن
أن يتوقف مجالها عند الجانب الفقهي والقضائي فقط وإنما يتعداهما إلى
الجانب التشريعي ، الشئ الذي يفرض علي المشرع عند وضع النصوص القانونية
ذات الصلة استحضار الارتباط الوثيق بين السياسة الجنائية والظواهر
الإجرامية والانطلاق من حقيقة اختلاف طبيعة وأسباب هذه الأخيرة من مجتمع
لآخر بسبب اختلاف البيئة الخاصة بكل ظاهرة من تلك الظواهر والظروف
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .......التي دفعت إلي ظهورها حتى يتسنى
للمشرع وضع أدوات ناجعة لمكافحة الجريمة فيما يقوم بإعداده من تشريعات
تبرز الطابع المميز للنصوص القانونية والدور الفني للمشرع وما يتمتع به
من خصوصية في صياغة قواعد السياسة الجنائية ، مما يسمح بالقول أن السياسة
التشريعية ما هي إلا تجسيد للسياسة الجنائية التي يعتمدها المشرع لطرح ما
لديه من تعديلات لما تسهر علي تطبيقه السلطة القضائية من قوانين بشكل عام
.
بيد أن ما تطرحه السياسة الجنائية في إطار النقاش الفقهي من إشكالات
تتعلق بظروف النشأة وإصرار البعض علي أن جهة بعينها هي المسؤولية عن وضع
قواعدها ......لم يعد مطروحا في العصر الحديث نظرا لاتساع نطاق السياسة
الجنائية وتعدد الجهات المتدخلة فيها وعدم وجود ما يبرر اختصاص جهة دون
غيرها في إعداد أسسها ومبادئها ، وإنما أصبح جوهر الإشكال يتعلق بالطريقة
المثلى التي يمكن أن تحدد دور واختصاصات كل جهة من تلك الجهات في وضع
قواعد السياسة الجنائية وتنفيذها دون الإخلال بالانسجام المفترض بين
الأطراف المتدخلة في تلك العملية ، ذلك أن فقدان التوازن المطلوب في هذا
المجال من شأنه أن يؤدي إلي خرق بعض القواعد القانونية التي قد يتسبب
خرقها في خلق إختلالات عميقة من شأنها أن تؤثر علي قيمة وفاعلية ما قد
يتم وضعه من قواعد.
ولعل من أبرز القواعد القانونية وأكثرها تعرضا للخرق في هذا المجال قاعدة
الاستقلال أو الفصل بين السلطات المتدخلة في إعداد وتنفيذ وتطبيق
.......السياسة الجنائية والتي ظل خرقها مثار تخوف من طرف المهتمين بهذا
المجال بدافع الوضع القانوني للنيابة العامة وما تتمتع به من دور في إطار
السياسة الجنائية ، وتبعيتها لوزير العدل بفعل خضوعها للتسلسل الإداري من
جهة وما يسمح به القانون في نفس الوقت من حرية للنيابة العامة في تحريك
المتابعة أو حفظها من جهة أخري .
وأمام هذه الوضعية تخضع النيابة العامة لمفهومين متناقضين يعودان في
جذورهما للوصف القانوني الذي أطلقه مشرع الثورة الفرنسية علي ضباط
النيابة العامة معتبرا إياهم بمثابة أعوان للسلطة التنفيذية ، مما خلق
تصورا لدي البعض من أن النيابة العامة ما هي إلا أداة بيد السلطة
التنفيذية تستخدمها متى شاءت للتدخل في عمل السلطة القضائية .
غير أن مشاهدته المنظومة القانونية من تطور أدى إلي تلاشى تلك التصورات
بسبب ما يظهر من الناحية القانونية من تباين بين ما يتمتع به كل من
القضائيين الواقف والجالس من اختصاصات أدت في واقع الأمر إلي عدم إمكانية
تأثير ما لوزير العدل من سلطة في هذا المجال علي ما ينهض به القضاء من
وظائف وأعمال ، مما أدي إلي ابتعاد النيابة العامة شيئا فشيئا عن السلطة
المباشرة للوزير فيما يتعلق بالأعمال القضائية البحتة ، كتلك المتعلقة
بتحريك وممارسة الدعوي العمومية وما يكتنف ذلك من إجراءات تسمح بمواكبتها
إلي حين البت فيها بشكل نهائي وتنفيذ ما قد يصدر بشأنها من أحكام وقرارات
، الشئ الذي أدي إلي اعتبار النيابة العامة أداة للربط بين السلطتين
القضائية والتنفيذية فيما يتعلق بالقواسم المشتركة بينهما والتي تفرض
ضرورة خلق آلية للتوازن والتكامل بين ما تتمتع به هاتين السلطتين من
اختصاصات في إطار وضع وتنفيذ وتطبيق .....قواعد السياسة الجنائية ، ولا
أدل علي ذلك مما نصت عليه المادة 31 من قانون الإجراءات الجنائية
الموريتاني، التي لم تجز لوزير العدل مخاطبة المحاكم المختصة بشكل مباشر
وإنما بواسطة المدعي العام لدي المحكمة العليا سواء تعلق الأمر بما منحه
القانون للوزير من سلطة الإشراف علي تنفيذ السياسة الجنائية أو تحريك
الدعوى العمومية بشأن ما يصل إلي علمه من جرائم أو ما يراه مناسبا من
طلبات مما يفرض علي المدعي العام لدي المحكمة العليا انطلاقا من مبدأ
احترام تطبيق القانون الواجب عليه بنص المادتين 27 و29 من قانون
الإجراءات الجنائية ، أن يقوم باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة
للتعامل مع تلك التوجيهات متى كان لها وجه قانوني يمكن الركون إليه ،
منطلقا في تطبيقها مما منحه القانون للنيابة العامة من وصف يجعل منها
طرفا شريفا مهمته الدفاع عن مصالح الأمة من خلال الحفاظ علي التطبيق
السليم لما اتفق عليه الجميع من قواعد قانونية .
ومع ذلك فإن التطبيق السليم لقواعد السياسة الجنائية وتحقيق ما تم رسمه
من أهداف وغايات لا يرتبط فقط بما تقوم به النيابة العامة من إجراءات ،
وإنما يتعلق بشكل جوهري بما يتعين العمل علي خلقه من ظروف وتوفيره من
آليات لدراسة الجرائم بمختلف أنواعها والوقوف علي أسباب ارتكابها وعوامل
وظروف مكافحتها ، وهي أمور تنصب في واقع الأمر علي الجريمة أيا كانت
طبيعتها والمراحل المرتبطة بها ،إذ يتحدد من خلال طبيعة كل مرحلة من تلك
المراحل نوع الوسائل والإجراءات الواجب اتخاذها ، ففي ما يتعلق بالأهداف
الواجب العمل علي تحقيقها قبل ارتكاب الجريمة والمرتبطة في جوهرها بتجفيف
منابع الجريمة أو الحد من انتشارها ، يتعين العمل علي وضع العديد من
البرامج الهادفة إلي القضاء علي الفقر والأمية والجهل داخل أوساط المجتمع
والرفع من مستوي أداء مختلف المصالح الحيوية من صحة، تعليم ،
تشغيل......... بما يضمن ارتفاع مستوي دخل الفرد وتحقيق معيشة كريمة
لجميع المواطنين ، إضافة إلي خلق أنظمة ولوائح وتشريعات متخصصة من أجل
توفير الرعاية الاجتماعية المناسبة لمختلف المراحل العمرية ، كتطوير
وتفعيل الدور الوقائي للمدارس والمحاظر......والتركيز في مناهجها علي
دراسة جملة من المواضيع التي من شأنها أن تشكل عامل صد ضد الانحراف وأن
توطد الأمن والسلم الاجتماعي وأن تخلق جيلا متجانسا يؤمن باحترام القانون
ويسعي للتآلف والانسجام ............
وإلي جانب ما يتعين القيام به من إجراءات وقائية فان من الواجب وضع
الوسائل والإجراءات اللازمة لمواكبة الجريمة ابتداء من لحظة ارتكابها
إلي حين الحكم فيها ، وذلك بالتركيز علي وضع إستراتجية مفصلة تأخذ في عين
الاعتبار ما يتعين علي مختلف الأجهزة ذات الصلة بالجريمة من قضاة وضباط
شرطة قضائية .............اتخاذه من إجراءات تتعلق في مجملها بالتعامل مع
المجرم وملاحقته والتحقيق معه فيما قام بارتكابه من وقائع وضبط أدلة
الجريمة والحكم فيها ، وهو أمر لا يمكن تحقيقه ما لم يتم وضع تلك الأجهزة
في ظروف تمكنها من أداء تلك المهام بقدر كبير من الفاعلية ، سواء تعلق
الأمر بما يجب توفيره من كوادر بشرية مدربة وإمكانيات مادية ووسائل فنية
ولوجستية ، إضافة إلي ما يجب وضعه من قواعد وأحكام تتعلق بإجراءات الحكم
بالعقوبات المناسبة من قبل القاضي انطلاقا من طبيعة وظروف كل قضية
ومرتكبها مع اتخاذ التدابير المناسبة للجمع بين الزجر والردع من جهة
والوقاية والإصلاح من جهة أخري ، علي أن يتم الأخذ في الاعتبار احترام
حقوق الضحية أو الطرف المدني فيما يتم اتخاذه من تدابير وإجراءات لحظة
النطق بالحكم والتي تعد في حد ذاتها بداية مرحلة جديدة عنوانها الأبرز
تنفيذ العقوبة المحكوم بها عليه ، والتي يتطلب تنفيذها وضع القواعد
الكفيلة بإعادة تأهيله نفسيا واجتماعيا ومهنيا........من خلال ما يجب أن
يوفر من تجهيزات في المؤسسات العقابية وبرامج للإصلاح وإعادة التأهيل
والإدماج ، وذلك من منطلق أن أهداف العقوبة في العصر الحديث لم تعد ترتكز
علي مبدأ ردع المحكوم عليه وإنما أصبحت تتسم بطابع أكثر إنسانية وأقل
إيلاما يهدف أول ما يهدف إلي إعادة المدان من جديد لدفئ المجتمع ، وهو
ما يتطلب توفير الوسائل المادية الكفيلة بإخراج تلك القواعد والإجراءات
من حيز التنظير إلي واقع التطبيق والذي من دونه لا يمكن لأية منظومة
قانونية أن تثبت فاعليتها في مواجهة الظواهر الإجرامية بفعل ما يميز هذه
الأخيرة من حركية دائمة وتطور مستمر لارتباطها الوثيق بمنحنى التطور
الاجتماعي والاقتصادي والثقافي .......لأي بلد .
ولعل عدم التناسب والتوازن بين ما يتم وضعه من قواعد وإجراءات قانونية
وما يتعين توفيره من وسائل لتطبيقها ، قد أدى من بين عوامل أخري إلي
إخفاق السياسة الجنائية المتبعة في العديد من البلدان بشأن محاربة
الجريمة ، وإلي جعل العدالة الجنائية محط الكثير من الانتقادات ومصدر
انعدام الثقة من طرف الرأي العام لعدم استجابتها لتطلعاتهم ، وأمام تلك
المقاربة يكون من البديهي أن نتساءل عن مدي ملاءمة وفاعلية ما وضعته
الدولة الموريتانية من قواعد وإجراءات وما أقرته من وسائل لمواجهة
الظواهر الإجرامية ؟ فالإجابة علي هذا التساؤل لا تتطلب الخوض فقط في
الجوانب المتعلقة بالبرامج والاستراتجيات التي وضعتها الدولة للقضاء علي
تلك الظواهر، أو للحد من خطورتها، أو بتحديد الجرائم والعقوبات وكيفية
مواكبتها وتعامل الجهات المختصة مع الجريمة ، وإنما تتعداها إلي تلك
المرتبطة بقواعد وإجراءات ووسائل تنفيذ تلك العقوبات ، أو بتعبير آخر فإن
الأمر لا يتوقف عند حد أبعاد السياسة التشريعية في البلد ورصد ما قد
يعتريها من نواقص وإنما يتعداها إلي الخوض في السياسة العقابية ومدي
فاعليتها بوصفها إحدى أهم مراحل السياسة الجنائية بشكل عام ، والتي تظهر
تجلياتها بشكل واضح وجلي من خلال جميع مراحل الدعوى العمومية وما يمكن أن
يسجل من نواقص في إطار التعامل معها من طرف الجهات المختصة ، بحيث تتجلي
تلك الإشكالات أكثر فأكثر من خلال مرحلة الحبس الاحتياطي التي تتطلب
العمل علي وضع تدابير علمية وواقعية لتعزيز قرينة البراءة والحد من
مغالاة النيابة العامة في تقرير المتابعة والاعتقال من خلال ما تقوم
بالاستناد عليه من أخذ بتصريحات متهم علي آخر، والشك في المتابعة
والمبالغة في التكييف والوضع في حالة تلبس دون توافر أسبابه ، وطلب إجراء
التحقيق لأسباب تافهة وأحيانا مع أشخاص غير مكتملي الهوية .........والشئ
نفسه يصدق علي قضاء التحقيق بحكم ما يمثله من ضمانة تستمد قوتها من
انتمائه لقضاء الحكم وما هو مطالب به من حماية للحريات تفرض علي قضاة
التحقيق الابتعاد عن ما درجوا عليه من مبررات لتقييم الحبس الاحتياطي
وإحالة الملفات المنشورة أمامهم إلي المحاكم المختصة والتي يعتمدون في
احالة معظمها علي حيثية واحدة تتمثل في كون عدم اعتراف المتهم بما نسب
إليه من وقائع تفنده تصريحاته الواردة في محضر الضبطية القضائية ، مما
يعنى أن إنكاره ما هو إلا وسيلة لمحاولة التملص من العقوبة ، وأمام هذه
الوضعية تكون النتيجة الطبيعية لعمل النيابة والتحقيق تصاعد في وتيرة
الاعتقال واكتظاظ في السجون وعدم تفعيل لما يسمى بالوسائل البديلة عن
الحبس الاحتياطي وتراكم في القضايا وانعدام للفاعلية المطلوبة للبت فيها
والتي من غير الممكن مواجهتها أو الحد من آثارها ما لم يتم تفعيل ما أقره
القانون الموريتاني من بدائل عن المتابعة و الحبس الاحتياطي خصوصا مسطرة
الصلح الجزئي المنصوص عليها في المادتين 41 و42 من قانون الإجراءات
الجنائية التي تتطلب في واقع الأمر الخضوع للمراجعة حتى تكون قابلة
للتطبيق علي جميع الجنح دون تحديد لسقف العقوبة ، وكذلك إجراء الوضع تحت
المراقبة القضائية الذي يتم بموجبه إخضاع المتهم لواحد أو أكثر من
التدابير المنصوص عليها في المادة 124 من قانون الإجراءات الجنائية ،
والإسراع في البت في القضايا وجنوح النيابة العامة نحو تقدير ملاءمة
المتابعة وترشيد الحبس الاحتياطي واتخاذ التدابير اللازمة للإسراع في
تصريف قضايا المعتقلين من خلال مراقبة مدد الحبس الاحتياطي المنصوص عليها
في المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية ، والحرص علي محاكمتهم في
ظروف مواتية وضمن آجال معقولة ، والابتعاد عن طلباتها المعهودة والمتعلقة
بالمطالبة بتطبيق القانون وبالحكم بأقصى العقوبات الوردة في مواد التكييف
، والعمل علي أن تكون تلك الطلبات محددة ومبرر في نفس الوقت .
أما فيما يتعلق بقضاة الحكم فان مبدأ التفسير الضيق للنص الجنائي وإن كان
يقيد القاضي الجنائي بالوقوف عند حرفية النص دون الاجتهاد فيه أو التوسع
في تفسيره ، إلا أن قضاة الحكم مع ذلك يتمتعون بسلطة واسعة في التعامل مع
الوقائع المنشورة أمامهم والبحث في مدي مطابقتها لنص التكييف انطلاقا مما
يفرضه مبدأ القناعة الشخصية للقاضي الذي يمنحه حرية أكبر في تقييم
الوقائع والأدلة وتغيير الوصف الجزائي أو الحكم بالحد الأدنى للعقوبة أو
ببراءة المتهم مما نسب إليه من وقائع .........الشئ الذي يعني أن مبادئ
وقواعد السياسة الجنائية تظل حاضرة فيما يقوم به القاضي الجزائي من أعمال
رغم ما أحاطه به المشرع الموريتاني من قيود ، وذلك من خلال ما يتمتع به
القاضي من سلطة واسعة تمنحه مجالا أرحب للتوسع في فهم النصوص القانونية
ومدي مطابقتها للوقائع محل المتابعة ، وهذه الإمكانية تعد في حد ذاتها
ضمانة للمتهم بفعل ما تشكله من وسيلة للرقابة علي جميع إجراءات المتابعة
التي سبق وان قيم بها ، مما يفرض علي عواتق قضاة الحكم مسؤولية أكبر
تنصب في جوهرها علي ضرورة تشخيص الوقائع والوقوف علي الظروف الاجتماعية
والاقتصادية والنفسية ........لأطرافها واستنباط أدلتها وتقييمها تقييما
صحيحا .
وانطلاقا مما يفرضه تطبيق مبادئ و قواعد السياسة الجنائية من مجهودات
فكرية ......علي المتدخلين فيها قبل تحريك الدعوى العمومية وأثناءها وفي
مرحلة التحقيق والحكم فيها ، يكون من باب الموضوعية القول بتوازن اغلب ما
تم وضعه من قواعد في هذا الإطار لاستنادها الواضح علي تصور واقعي ومنطقي
عن الجريمة والمجرم مع خلق الاتزان المطلوب بين مصلحة الفرد والجماعة في
آن واحد والأخذ بالمصالح الجديرة بالحماية الجنائية والأسلوب الأكثر
نجاعة لما تقتضيه مصلحة المجتمع وفقا لظروفه واحتياجاته ، مما يعني أن
الإشكال لا يكمن في تلك المراحل فقط وإنما ينصب في واقع الأمر علي مدى
فاعلية ما تم اتخاذه من تدابير للحيلولة دون وقوع الجريمة أصلا ، وعلى
مرحلة تنفيذ العقوبات المحكوم بها والتي تتطلب توفير قدر كبير من الآليات
والوسائل الكفيلة بتطبيق تلك القواعد والإجراءات علي الوجه المحدد قانونا
من منطلق أن المشرع الموريتاني قد حدد من ضمن أهداف تنفيذ العقوبات إصلاح
المحكوم عليهم وإعادة دمجهم في المجتمع كما يظهر من خلال نص المادة 652
من قانون الإجراءات الجنائية والمادة 4 من المرسوم رقم 98/078 الصادر
بتاريخ 26/10/1998 والمتضمن تسيير مؤسسات السجون والإصلاح .
فعملية الإصلاح وإعادة التأهيل تلك تتطلب توفير الظروف الملائمة ، التي
يأتي علي رأسها وجود مؤسسات عقابية مؤهلة ، وتوفير وسائل وإمكانيات
بشرية ومادية قادرة علي القيام بذلك ، إذ بين ثنائية تدابير الوقاية
ووسائل تطبيق القانون وتنفيذ الأحكام من جهة ونواقص المؤسسات العقابية
تتحدد مواطن الخلل في السياسة الجنائية بالبلد ، وما يعترضها من صعوبات
وعوائق يمكن إجمال بعضها في النقاط التالية :
1- إن تحقيق الأهداف المتوخاة من خلال السياسة الجنائية بصفة عامة
والعقابية علي وجه الخصوص يتطلب وجود مؤسسات عقابية قادرة علي تحقيق تلك
الأهداف بحيث تتمتع بالشروط والمواصفات اللازمة لذلك وهو ما تفتقر
إليه المؤسسات العقابية الوطنية .
2- إن المشرع الموريتاني قد نص في المرسوم رقم 98/078 الصادر بتاريخ 23
مايو 1998المتضمن تنظيم مؤسسات السجون والإصلاح علي بعض اللجان المكلفة
بالمراقبة والإصلاح والسجون والتي لم تري النور إلي حد الساعة .
3- إن برهنة المحكوم عليه علي حسن سلوكه وتقديمه ضمانات كافية لدمجه في
المجتمع شروط لاغني عنها لحصوله علي الحرية المشروطة التي تتطلب وجود
أوراش داخل كل مؤسسة عقابية تعمل من خلال برامج معدة من أجل رعاية
وإصلاح ودمج المحكوم عليه ، إذ من خلال تقييم نتائج تلك الأوراش يتحدد ما
إذا كان المحكوم عليه قد توفرت فيه الشروط اللازمة للحصول علي الحرية
المشروطة أم أنها لم تتوفر فيه ، وهو ما تفتقر إليه للأسف الشديد
المؤسسات العقابية بالبلد. كما أنها تفتقر كذلك للمواصفات التي تمكن من
تصنيف المحكوم عليهم داخل المؤسسات العقابية حسب نوع الجريمة وطبيعتها
وظروف وسن المحكوم عليهم مما يمكن من إخضاع كل طائفة لإجراءات تنفيذ
تتلاءم وواقعها ، وتمكن بالتالي من إعمال مبدأ تفريد العقوبة خصوصا في
الجوانب المتعلقة بما أقره المشرع الموريتاني من إمكانيات للتفريد
كالإعفاء من العقوبة كلها أو بعضها عن طريق العفو وإسقاط الجزء المتبقي
منها بواسالحرية المشروطة ، والفيصل في ذلك كله هو سلوك المحكوم عليه
ومدي استعداده لعدم العودة للإجرام مستقبلا .
4- إن ما تم إقراره من إجراءات في تنفيذ العقوبات المحكوم بها تتطلب
وجود مؤسسة مكلفة بالإشراف والمراقبة علي القيام بذلك وفق
الشروط والأشكال المنصوص عليها قانونا ، وفي هذا الإطار فقد عمدت مختلف
التشريعات في العصر الحديث إلي منح تلك المسؤولية لقاض أطلقت عليه اسم
قاض تنفيذ العقوبات وهو ما قام به المشرع الموريتاني حينما نص علي
اختصاصات قاضي تنفيذ العقوبات في المواد من 637 إلي 639 من قانون
الإجراءات الجنائية والتي بالعودة إلي ما تضمنته يتضح أن المشرع
الموريتاني قد منح قاضي تنفيذ العقوبات اختصاصات محدودة وعديمة الجدوى و
ذلك من أوجه عدة ، أهمها أن المشرع لم يرتب جزاء علي ما يقوم قاض التنفيذ
بضبطه من خروقات تتعلق بعدم مطابقة التنفيذ للنظم والإجراءات المنصوص
عليها ولعل ذلك من ضمن الأسباب التي أدت بالقائمين علي السياسة العقابية
إلي عدم تفعيل مؤسسة قاضى تنفيذ العقوبات ، إضافة إلي أسباب أخري تتعلق
بنوع وطبيعة الاختصاصات الممنوحة له من جهة وواقع المؤسسات العقابية من
جهة أخرى .
هذا ويمكن القول كخلاصة لهذه الملاحظات ، أن بلادنا قد قطعت أشواطا كبيرة
في إطار محاربة الجرائم المنظمة ، كجرائم الإرهاب والمخدرات وغسيل
الأموال...........وما تتمتع به من خصوصيات تجعلها أكثر الجرائم تهديدا
ليس فقط للأمن والسلم والسكينة ، وإنما لكينونة الدولة ووجودها ، وذلك
بفعل الارتباط الوثيق بينها والتنسيق المحكم بين جميع أعضائها.
وقد أثمر ما تم بذله من مجهودات في هذا الإطار، إلي حماية البلد من مخاطر
تلك الجرائم ،وتفكيك العديد من الخلايا الإرهابية وإلقاء القبض علي
أعضائها قبل تنفيذهم لما خططوا للقيام به من أعمال تخريبية ، ونفس الشيء
بالنسبة لعصابات المهربين والمتاجرين بالمخدرات التي قلما تخلو فترة
زمنية من الإعلان عن تفكيك إحداها وإلقاء القبض علي أفرادها
والي جانب ذلك يمكن القول أن البلد يمتلك ترسانة قانونية وإجرائية تمتاز
بمواكبة تلك المستجدات من خلال ما يتم القيام به من حين لآخر من استحداث
لنصوص قانونية مجرمة لظواهر لم تكن معروفة من قبل ، أو تحيين لنصوص أخرى
سبيلا لمواكبتها لتلك التطورات ، وان كان بعض ما تم استحداثه مؤخرا من
نصوص قانونية لمعالجة بعض الظواهر الإجرامية يفتقر في العديد من ترتيباته
للخصوصية والطابع الوطني ، نظرا لكونها مجرد معالجة قانونية لظواهر
إجرامية في بلدان أخرى تم استيرادها دون محاولة مواءمتها مع الواقع
الديني والاجتماعي والثقافي والاقتصادي........للبلد مع انعدام الوسائل
الكفيلة بتطبيقها .
كما يمكن القول كذلك بوجود كوادر بشرية ذات كفاءة عالية من قضاة وضباط
شرطة قضائية قادرة علي مواكبة تلك الظواهر وتطبيق النصوص القانونية علي
الوجه الأكمل .
وعلي الرغم من ذلك تظل الاستراتجيات والبرامج المتبعة خصوصا في المجال
الاجتماعي والاقتصادي.... عاجزة عن معالجة الأسباب الكامنة وراء انتشار
الجرائم والحد من الخطورة الإجرامية ، مما يشكل إلي جانب تنفيذ العقوبات
أحد ابرز عوائق السياسة الجنائية ، بفعل ما يتطلبه التنفيذ من وسائل
مادية وبشرية تفتقر إليها جميع المؤسسات السجنية في البلد ، ضف إلي ذلك
ما تم تسجيله من غياب لاستخدام الوسائل العلمية الحديثة من مخابر
متخصصة في تحليل وفحص العينات المأخوذة من مسرح الجريمة ، ومصالح طبية
متخصصة في الطب الشرعي ، وأجهزة لرفع البصمات...........وذلك للكشف عن
الجرائم ومحاربتها ، وإلقاء القبض علي مرتكبيها ، وجمع الأدلة المتعلقة
بها...............
والله أعلم