منح المشرع النيابة العامة في المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية صلاحية طلب إجراء التحقيق، مسنِدا تلك المهمة لقاضي التحقيق كما في المادة 43 من ق.إ.ج حيث نصت على أنه "يكلف قاضي ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻕ بإجرﺍﺀ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻘﺎﺕ... بناء على طلب من وكيل الجمهورية.."
وأثناء هذا التحقيق وممارسة الإجراءات خصوصا بعد الاستجواب، والمواجهة، وتقدم التحقيق، تبدأ تتشكل قناعة قاضي التحقيق الذي يكون مدعوا أكثر من أي وقت مضى لممارسة سلطاته؛
وتتمثل هذه السلطات والصلاحيات أثناء سير التحقيق في الأوامر القضائية؛
و أهمها وأخطرها ما هو ماس بالحرية خاصة الوضع تحت المراقبة القضائية والحبس الاحتياطي.
لذا يُعد الحبس الاحتياطي محل جدل كبير بين أهل الفقه ما بين مؤيد ومعارض له لما فيه من التضارب بين المصلحة الفردية (الحق في الحرية واستصحاب الأصل الذي هو البراءة) و المصلحة الجماعية (مصلحة التحقيق وسير العدالة)
ولأهمية هذا الموضوع في ساحة الثقافة القانونية و الإعلامية، ولما يجيب عليه من إشكاليات من قبيل ماهو الحبس الاحتياطي؟ وكم هي مدته؟ ومتى يجوز للقاضي اللجوء إليه؟
أردت أن أضيء حوله إسهاما مني في نشر الثقافة القانونية مستصحبا "العمومية والتجريد" وسيكون ذلك من خلال الفقرات التالية:
الفقرة الأولى: أسباب وضوابط الحبس الاحتياطي
الفقرة الثانية: مدة الحبس الاحتياطي وآثاره.
محاولا أن لاتكون معالجتي له بالطويلة المملة ولا القصيرة المخلة رغم تحديات وإكراهات تشعب الموضوع.
الفقرة الأولى: أسباب وضوابط الحبس الاحتياطي
لم يُعرِّف المشرع الموريتاني الحبس الاحتياطي تاركا المجال للفقه الذي اختلف في تعريفه باختلاف الزاوية التي ينظر بها إليه كل فقيه، ولأني لست بصدد المقارنة والحكم على تلك التعريفات أورد تعريفا موجزا له و هو كونه "سلب حرية المتهم مدة من الزمن تحددها مقتضيات التحقيق ومصلحته وفق ضوابط قررها القانون" (مصطفى قنديل، موقف التشريعات الجنائية من الحبس الاحتياطي للأحداث دراسة مقارنة، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية العدد 57 ابريل 2015 ص221)
ومن خلال هذا التعريف نستشف دواعي وأسباب وضع المتهم في الحبس الاحتياطي وهو ما سأتناوله (أولا) على أن أن أتبعه بضوابط وشروط الحبس الاحتياطي (ثانيا)
أولا: أسباب الحبس الاحتياطي
بما أن الحبس الاحتياطي يُعد استثناء وخطيرا لمساسه بحرية المتهم فإنه "لا يجوز لقاضي التحقيق أن يأمر بالحبس الاحتياطي إلا إذا كان له مبرر سواء كان ذلك لخطورة الوقائع، أو للمنع من إخفاء أدلة الجريمة أو للخوف من هرب المتهم أو للخوف من ارتكاب جرائم جديدة" (المادة 138 من ق.إج.)
بالإضافة إلى ما نصت عليه المادة 123 من ق.إ.ج في فقرتها الأخيرة من أنه "يمكن إلغاء الوضع تحت المراقبة أثناء جميع مراحل التحقيق إذا لم يحترم المتهم الالتزامات المفروضة عليه بمقتضى الأمر الصادر عن قاضي التحقيق، وفي هذه الحالة، يصدر قاضي التحقيق ضده أمرا بإلإيداع أو أمرا بالقبض، بعد أخذ رأي النيابة العامة".
والأمر بالإيداع والأمر بالقبض المشار إليهما في هذه الفقرة تم تعريفهما في المادة 109 من نفس القانون وذلك بالنص على أن:
- أمر الإيداع هو الأمر المعطَى من طرف قاضي التحقيق لمدير السجن أن يستقبل أو يعتقل المتهم، وهو يسمح بالبحث عن المتهم أو تحويله إذا كانت قد أعلنت له من قبل.
- أمر القبض هو الأمر المعطى للقوة العمومية للبحث عن المتهم واقتياده إلى السجن المعين في الأمر والذي يستقبل ويعتقل فيه"
فأسباب الحبس الاحتياطي هي إذا:
- إخلال المتهم بالالتزامات المفروضة عليه أثناء المراقبة القضائية.
- خطورة الوقائع المتهم بها.
- المنع من إخفاء أدلة الجريمة
- الخوف من فرار المتهم من العقوبة.
- توقي الإخلال بالأمن والنظام العام.
ثانيا: شروط وضوابط الحبس الاحتياطي
هذه الشروط هي:
- مثول المتهم واستجوابه وإعلامه بحقوقه والوقائع المنسوبة إليه كما في المادة 101 من ق.إج وذلك تطبيقا للمادة 121 التي تنص على أنه "ليس لقاضي التحقيق أن يصدر أمر إيداع إلا بعد الاستجواب" ؛
- تضمين الأمر بالايداع كل "البيانات المتعلقة بهوية المتهم الكاملة" المادة 110 من ق.إ.ج.
- إلزامية أن "يؤرخ ويوقع من طرف القاضي الذي أصدره ويحلى بختمه" نفس المادة السابقة.
- تبيين أمر الايداع لــ"طبيعة التهمة والمواد القانونية المطبقة" المادة 110 والمادة 184 من ق.إ.ج
- تبيلغ الأمر "للمتهم بواسطة قاضي التحقيق ويجب أن ينص على هذا التبيلغ في محضر الاستجواب" م.110 من ق.إ.ج.
- صدور الأمر بالإيداع ليكون سندا للتنفيذ بشكل مسبب ومعلل كما تشير إلى ذلك المادة 184 من ق.إ.ج.
- أن تكون الجريمة مما يجوز فيه الحبس الاحتياطي؛ وهذا هو أهم شرط موضوعي لذا جاء في نص المادة 121 "وبشرط أن تكون الجريمة تستوجب عقوبة حبس جنحي أو عقوبة أشد"
الفقرة الثانية: مدة الحبس الاحتياطي وآثاره
بحكم طبيعة الحبس الاحتياطي المؤقتة والاستثنائية فإنه يسمى في بعض التشريعات بــ"الحبس المؤقت" لكونه يُفرض على شخص تُفترض فيه البراءة و لم تثبت إدانته مما حتم عل المشرع أن يحدد له آجالا تختلف باختلاف نوع الجريمة وطبيعتها وهو ما سأتطرق له في (أولا) على أن أشفع ذلك بالحديث عن آثار الحبس الاحتياطي (ثانيا)
أولا: مدة الحبس الاحتياطي
تختلف مدة الحبس باختلاف الجريمة فهي في:
- الجنح: يُفرق فيها بين المتهم المستوطن وغيره فـــ"لايجوز، في مواد الجنح إذا كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة في القانون هو الحبس أقل من سنتين، أن يحبس المتهم المستوطن حبسا احتياطيا أكثر من شهر ابتداء من يوم اعتقاله" (الفقرة الأولى من المادة 141 من ق.إ ج) وقد حددت المادة أيضا التمديد بمرة واحدة.
أما غير المستوطن فإن:
• الأصل "أن لا تتجاوز أربعة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة إذا كان الشخص المعتقل لم يسبق له أن أدين بسبب جناية أو جنحة من جرائم القانون العام أو بعقوبة جنائية أو بعقوبة سجن غير موقوف لمدة تفوق سنة أو بسبب قابليته لعقوبة تساوي أو تفوق خمس سنوات" م 138 من ق.إ.ج.
• الاستثناء: "هذه المدة يمكن أن تصل إلى سنتين عندما تكون العناصر المكونة للجريمة قد تمت خارج التراب الوطني أو إذا كان الشخص متابَعا بسبب القتل العمد أو المتاجرة بالمخدرات أو الإرهاب أو جمعيات الأشرار أو المتاجرة بالبغاء أو الاغتصاب أو نهب الأموال أو بسبب جريمة مرتكبة من طرف عصابة منظمة" (الفقرة 3 من نفس المادة)
- الجنايات: مدة الحبس الاحتياطي في الجنايات في:
• الأصل: ستة أشهر بحسب الشروط السالفة في مدة الأصل الواردة في مادة الجنح.
• الاستثناء: هو كونها "يمكن أن تصل إلى ثلاث سنوات" الفقرة ما قبل الأخيرة من م 138 وإعمال الاستثناء يكون في نفس الحالات التي ذكرت كاستثناء في مادة الجنح آنفا وهي:
∆ كون عناصر الجريمة قد تمت خارج التراب الوطني
∆ إذا كان الشخص متابَعا بسبب المتاجرة بالمخدرات.
∆ إذا كان الشخص متابعا بسبب تهمة الإرهاب.
∆ أو بسبب جمعيات الأشرار
∆ أو المتاجرة بالبغاء.
∆ أو نهب الأموال.
∆ أو الاغتصاب.
∆ أو بسبب جريمة مرتكبة من طرف عصابة منظمة.
ففي كل هذه الحالات يمكن أن تصل مدة الحبس الاحتياطي إلى ثلاث سنوات بل إذا ظهر "عند انصرام هذا الأجل ضرورة استمرار الاعتقال الاحتياطي، جاز لقاضي التحقيق تمديد فترة الاعتقال بمقتضى أمر قضائي معلل من تلقاء نفسه أو بناء على طلب مسبب من وكيل الجمهورية لمدة مساوية" (الفقرة الأخيرة من المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية).
ثانيا: الآثار التي يرتبها الحبس الاحتياطي
يرتب الحبس الاحتياطي آثار كثيرة سأذكر منها:
- إلزام القاضي "بأن يعجل إجراءات التحقيق في أسرع وقت ممكن وهو مسؤول عن كل إهمال يمكن أن يؤخر بدون جدوى التحقيق ويطيل مدة الحبس الاحتياطي تحت طائلة التعرض لمخاصمة القضاة" بحسب نص المادة 139 من ق.إ.ج.
- حق المتهم ومحاميه في طلب الإفراج المؤقت في كل وقت كما في المادة 143 من ق.إ.ج
- أمر القاضي من تلقاء نفسه بالإفراج المؤقت في غير جرائم القصاص والحدود؛ بحسب المادة 142 من ق.إ.ج
- جواز طلب وكيل الجمهورية الإفراج المؤقت. م 142 من نفس القانون
- حق المتهم ومحاميه في رفع طلب الإفراج المؤقت مباشرة إلى غرفة الاتهام في حال عدم بت القاضي في الآجال م143 من ق.إ.ج كما يجوز رفعه إلى رئيس المحكمة، ورئيس الغرفة.
- إلزام المتهم حتى في حالة الإفراج المؤقت بــ:
• الحضور كلما طُلب منه ذلك.
• إخبار القضاء بكل تغيير لمحل إقامته.
• اختيار الموطن.
• الالتزام بكل ما قد يفرضه القاضي؛ كل هذا حسب المادة 146 من نفس القانون.
- حق المتهم في استئناف أمر قاضي كما في المادة 186 من قانون الإجراءات الجنائية.
إذا كان "فرج علواني" يرى في كتابه "التحقيق الجنائي والتصرف فيه" بأن الحبس الاحتياطي يُعد من مظاهر الصراع بين سلطة الدولة وحق المتهم في احترام حريته وإنسانيته على اعتبار أن هذا الإجراء سالب لحرية المتهم فهو جزاء جنائي لايجوز توقيعه إلا بحكم قضائي صادر بالإدانة (فرج علواني، التحقيق الجنائي والتصرف فيه دار المطبوعات الجنائية الإسكندرية مصر 1999 ص 325) فإن الحبس الاحتياطي اليوم لا يمكن أن يؤتى من تلك الثغرة المتمثلة في الصراع بين سلطة الدولة والأفراد لتعاقب الأنظمة والحكام وتسليمهم به وعدم إدخالهم تعديلات عليه؛ وهو رغم ما عليه من مآخذ فإنه ظل صامدا لما فيه من مزايا تتجلى في إرغام من تسول له نفسه المساس بهيبة القضاء وعدم احترامه، و المحافظة على أدلة الإثبات من الطمس، بالإضافة إلى حفظ الأمن من جهتيه؛ جهة تأمين المتهم من الانتقام منه باغتياله أو محاولته الانتحار، وجهة حفظ أمن المجتمع من ارتكاب جرائم جديدة أو تجييش الشارع لها وركوب الأمواج واستغلال القضايا التي تخفق السلطة التنفيذية في إيجاد حلول لها، و مع هذا فإنه لا بد من إعمال ضوابط الحبس الاحتياطي من أجل قيام دولة القانون التي لا مكان فيها لمن يبدد المال العام؛
فبإعمال الضوابط وتوافر الشروط وتمكين المتهم من جميع حقوقه من أجل أن يتمكن من كسب المعركة إذا كان محقا في دعواه ويخسرها إذا كان عكس ذلك؛ ننعم بدولة القانون التي من أسسها توفير محاكمة عادلة.
فهل ستتوافر شروط المحاكمة العادلة ويكسب المتهم المعركة أم أنه سيظل عاجزا عن التعاطي مع السؤال المحوري من أين لك هذا؟