الجريمة ظاهرة واسعة الانتشار في المجتمعات البشرية، لا يسلم منها إلا من رحم ربك.
ولها- في كل المجتمعات- أسباب كثيرة منها ماهو محلي (خاص بكل قطر) ومنها ماهو عام (لا حدود له ) ونظرا لانزياح الحدود بين الدول وتنوع وسائل التواصل الجديدة بين البشر، أصبح ما يمس دولا ما يؤثر غالبا على دول أخرى، ولا سيما إذا كانت الرقابة الضرورية منعدمة أو قاصرة كما هو الحال فى بعض الدول الضعيفة.
وبلادنا تعانى من هذه المشكلة الشائكة البالغة الأهمية لما لها من انعكاس سلبي على سلامة المواطن وأمنه، مما يتطلب حلولا جذرية.
انتشرت الجريمة، بشكل ملحوظ، بالتزامن مع هجرة ساكنى الأرياف إلى العاصمة جراء الجفاف بحثا عن لقمة العيش.. حيث انتشروا فى أحياء عشوائية غير مؤهلة أصلا لاستيعابهم، بسبب افتقارها لأدنى مقومات الحياة، فلحقوا بمهمشين سبقوهم وازداد الضغط علي المدينة. ولم تكن لهؤلاء اللاحقين ولا للذين من قبلهم أي مؤهلات تسمح لهم بخوض معركة الحياة، فانتشرت البطالة وازداد الفقر وظهرت الفوارق الاجتماعية جلية، وكان من اللازم اتخاذ قرارات استعجالية لمواجهة هذا الوضع: (تزويد بعض المناطق بالماء والكهرباء، بناء مدارس ومراكز صحية....) فى انتظارحلول أكثر عمقا وشمولية مستندة إلى دراسة معمقة للوضع الحالى وآفاق المستقبل، آخذة بعين الإعتار-على سبيل المثال لا الحصر- حالة القرى والأرياف، تثبيت قاطنيها فى أماكنهم بإقامة مشاريع ذات مردودية اقتصادية واجتماعية وبخلق وتشجيع منافسة إيجابية بين البلديات، وبمجابهة النمو العشوائي للمدينة وإخضاعه للمعايير العمرانية طبقا لمخطط أعد سلفا، لكي لا يخرج الوضع عن السيطرة وتعم الفوضى، وبتهيئة مايتطلبه هذا النمو من خطط وتجهيزات ووسائل تساعد فى إيواء الوافدين وإدماجهم على أسس سليمة...،
ولا تخفى في هذا السياق أهمية التصدى للهجرة واتخاذ الإجراءات الإدارية والقانونية للحد منها ومما يترتب عليها من أضرار على المجتمع ، بتعميم وتشديد الرقابة على الحدود وغير ذلك من إجراءات كفيلة -إن هي نفذت على الوجه المطلوب وفى الوقت المناسب- بأن تضع حدا لانشار الجريمة التى كانت فى بداية الأمر عبارة عن ممارسات طائشة- صنفت فى بعض الحالات -بالاضطرارية.
ولكن تطور الوضع كثيرا ولم يجابه -فى أغلب الأحيان- بأكثر من إجراءات مرتجلة محدودة النفع والفعالية غير قابلة للاستمرارية لكونها لا تندرج فى إطار خطط مدروسة من شأنها تحسين الأوضاع المعيشية والصحية والتعليمية والأمنية للمواطن بصورة عامة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن تغييب مصطلح"النفع العام"من قاموس الإدارة ترك الباب مفتوحا أمام قرارات خارجة عن المألوف وأخرى تحت الضغط: ( إما لإسكات مظاهرات، أو لتسوية نزاعات، أو لأغراض انتخابية، أو للترويج لبعض الهيئات "وترميم" سمعتها...) قلما يكون الدافع هو المصلحة العامة وإن حصل ذلك لم يلق تجاوبا وبقي حبرا على ورق.
نجم عن هذا الإهمال للشأن العام والتراخى فى مجابهة الواقع انتشار الفوضى وتراكم المشاكل فمن ذلك :(تدفق غير مسبوق للمهاجرين من كل حدب وصوب، ارتفاع نسبة البطالة وزيادة عدد الفقراء، تدنى الخدمات........) فأضحت الأرضية صالحة لتفشي الجريمة واحتضان المجرمين. فلا غرابة إذن- فى ظروف كهذه -إن ظهرت الجريمة وترعرعت: وهذا ما حصل بالفعل: (شاع تداول المخدرات وما نجم عنه من أضرار على المجتمع، تسربت عصابات إجرامية إلى البلد، تكونت تشكيلات متفاوتة القوة والنفوذ تمارس الجريمة بجميع أشكالها واتسعت رقعتها وانخرطت فى صفوفها فئات متعددة ذات نفوذ وشوكة لما لها من علاقات فى شتى الأوساط ومن إمكانيات مادية. وتكونت خلايا بعضها يدار بأيادي خفية توجهها لنشر الفوضى أوكوسيلة ضغط لبلوغ مآربها......)
يبدو أن العنصر الأجنبي- المستجلب إلى البلاد لأغراض انتخابية أو غيرها- لعب دورا محوريا فى هذا الجال.
وأصبح المجال مفتوحا للممارسة الفعلية للجريمة:( أزهقت الأرواح، وهتكت الأعراض، ونهبت الأموال، احتجزت الرهائن ....) وساد الخوف حتى "بلغ السيل الزبى" عندها استشعر الخطر وانصبت الجهود على البحث عن مخرج من هذه المعضلة. فما السبيل إلى ذلك؟
يكمن الحل فى الخروج من الدائرة الضيقة والبحث عن أطر أكفاء، نزهاء تسند إليهم هذه المهمة ( ولا ينحصر البحث على فئة ولاتيار بعينه )، توزع بينهم الأدوار: ( دراسة وتخطيط، تنفيذ، إشراف ورقابة) -فى إطار توجيهات واضحة وصارمة نابعهة من إرادة صادقة للتغيير - وتتاح لهم الوسائل المعنوية والمادية والوقت الكافى لأداء مهامهم فى مأمن من التجاذبات الطائفية والضغوط.
قد تكون هذه الشروط عزيزة المنال لكنها ليست مستحيلة إن صدق القصد.
إن المشاكل معلومة والحلول ممكنة، وسبقت الإشارة إلى طرف منها، فالذي ينقص الآن هو وجود طاقم بشري تتوفر فيه الشروط الآنفة الذكر أو جلها وإرادة سياسية قوية يستند عليها، فإن اجتمعا كان الخروج من هذا المأزق متاحا وإلا فستبقى الحلول ناقصة إن لم تكن منعدمة.
والواقع أن الحاحة إلى مثل هذه نالإجراءات تعم جميع المؤسسات بدون استثناء.
الله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.