عندما فتح الحوار مع المتشددين السلفيين في السجون الموريتانية من طرف
السلطات حينها كانت أهم حجة صاغها الفقهاء المحاورون للمتشددين أنهم
يحاربون دولة إسلامية، والدليل هو الدستور الذي نص على أن الشريعة
الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع في الجمهورية الإسلامية الموريتانية
كما احتجوا عليهم بأن القانون الجنائي الموريتاني يتضمن عقوبات القصاص
و الدية و الرجم والقطع وبصورة عامة القوانين عندنا مرجعيتها الشريعة
الإسلامية . ونفس الشيء كان عنوان الندوة التي نظمتها وزارة الشؤون
الإسلامية تحت عنوان موريتانيا دولة إسلامية وليست علمانية وكانت ردة
فعل على ما سمي حينها بتنامي ظاهرة الإلحاد في الشباب الموريتاني
وعندما انتقدتنا منظمات حقوق الإنسان عما يصفونه بالعقوبات " المشينة"
و" اللاإنسانية " قلنا إننا دولة لديها قوانين وضعية كافية لردع المجرمين
وبالطريقة التي اختارها الموريتانيون وصوتوا عليها ومن ضمنها تلك
العقوبات التي يصفونها بالمشينة واللاإنسانية، وبنفس الحجة نتحفظ على بعض
الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان,
ولكن عندما يسألنا الموريتانيون عن كيفية وقايتهم من الجريمة فكيف
ستكون الإجابة ؟ اعتقد أن الصراحة تقتضي أن نقول لهم نحن لا ننفذ
العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي سواء كان مصدرها الشريعة،
ولا تلك التي مصدرها القانون الوضعي والسجون لدينا مكتظة بشكل يصعب معه
وضع سياسة إصلاحية ناجعة، وأن السياسة الجنائية لدينا غير مقنعة وغير
واضحة والجريمة التي هي ظاهرة إنسانية واجتماعية ليست جديدة لا يخلو
منها أي مجتمع وأخذت في الوقت الحاضر أبعادا دولية ولم تعد شأنا محليا
داخليا بل مسألة عابرة للحدود والقارات لم تحظ لدينا بنفس الاهتمام
والنقاش الذي عرفته قضايا أخرى قد تكون ثانوية بالمقارنة معها.
لا نحمل النظام الحالي المسؤولية الكاملة عن الوضعية الحالية فكما قال
الرئيس في خطاب ترشحه عن إن كل من سبقوه من الرؤساء طبعا وضعوا لبنة في
بناء هذه الدولة، فإننا نقول أنهم كذلك ساهموا كل من موقعه في الوضعية
التي وصلت إليها الأمور فيما يتعلق بالإجرام والجريمة.
ومع ذلك نرى من المفيد وضع السؤال التالي، هل القانون الجنائي وما طرأ
عليه من تغيير وتعديل وما تم تقنينه من نصوص جنائية فيها حماية كافية
لمنع الجريمة التي أصبحت مستشرية في المجتمع بصورة لم يسبق لها مثيل؟ ،
يأتي مبرر السؤال من اُلتبرير الذي تقدمه الدولة منذ وجودها لتستتر وراءه
في كل مرة يبدو فيها أمن وسكينة هذا المجتمع مهددين بفعل ظاهرة الإجرام ،
في مسعى يحاول تلمس أماكن القوة و الخلل في وسائل منع الجريمة في واقعنا
التشريعي والقضائي .و للإجابة على السؤال سنبدأ بالتعرض للجريمة كأكبر
تحد تعرفه المجموعة البشرية في الوقت الحاضر ونعرفها بأنها فكرة قانونية
لا يمكن فهما خارجة عن مسلك من تنسب إليه، هكذا تعلمنا من دراستنا
للنظرية العامة للقانون الجنائي، ووسائل منع الجريمة تسمى بالسياسة
الجنائية أو السياسات الجنائية وهو مصطلح كثر استعماله نظرا لتضخم ظاهرة
الجريمة وتنوع وسائل ارتكابها وخطورتها فكان الشعور العام هو المطالبة
باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنعها مما يعني أن الأمر هنا يتطلب رصد
السياسة الجنائية أو السياسات الجنائية المتخذة من قبل السلطات المتعاقبة
المفترض فيها أن تشكل مواكبة حازمة للظاهرة ومواجهتها بصورة توازن بين
الوقاية منها أو الحد من أسبابها وبين العمل على إصلاح الضالعين في
ارتكابها، وهو ما نطلق عليه محور النقاش حول فلسفة الإجرام والعقاب.
ولا ننكر أن السياسة الجنائية المتبعة في بلدنا منذ زمن بعيد عرفت مدا
وزجرا تأثرت فيه بالسياسة المتبعة من قبل هذا النظام أو ذلك الشيء الذي
أبعدها في كثير من الأحيان عن الجدية و الفاعلية في محاربة الجريمة.
وتتفق كل الأنظمة السياسة التي عرفها البلد على أن النصوص القانونية
والتشريعية التي ظهرت مع القانون ألجناني لسنة 1983 ذي الخلفية
الإسلامية قائمة على النص على عقوبات الحدود والقصاص والدية رافقتها
سياسة جنائية معطلة، فمنذ إعدام المتهمين بمحاولة انقلاب 1987 لم نعرف
تطبيقا لعقوبة القتل لا إعداما ولا قصاصا ولا تطبيقا للحدود المنصوص
عليها رغم كثرة الأحكام الصادرة بهذا الخصوص في تجاهل تام للإرادة
الشعبية المعبر عنها في قوانين البلد وفي ازدراء تام لأحكام قضاء هدفه
الوحيد تطبيق القانون بحق المخالفين.
ولاشك أن وضعية كهذه ساهمت بشكل كبير في تطور الجريمة في البلد بما
فيها الأحداث الأخيرة التي كشفت عن تطور خطير للظاهرة وصعود لا نقول أنه
غير مسبوق ولكنه لا فت جعل منه حديث الساعة والشغل الشاغل للمواطن سواء
في العاصمة أو بعض المدن الداخلية.
فلا حديث اليوم إلا عن الإحساس بانعدام الأمن وتفاقم ظاهرة الإجرام
وتوجيه وابل النقد إلى العدالة الجنائية والتعبير الواضح عن عدم الثقة
فيها وفي أدواتها.فهل هناك نقص يمكن توجيهه الى المنظومة القضائية
والتشريعية ؟
بداية نذكر بأن التصدي للجريمة هو مسؤولية الجميع، أجهزة الدولة و
المجتمع المدني والأفراد، فالدولة تشرف على السياسة الجنائية حسب نص
المادة 31 .والسياسة الجنائية تتأسس على القانون الجنائي بشقيه :
الموضوعي والشكلي، فالقانون هو المحدد للجرم وللعقاب في نفس الوقت.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن القانون الجنائي الموريتاني ليس ثمرة
لتطور تاريخي طويل بل هو من الناحية النظرية تركيب تشريعي عكس أراء فقهاء
الشريعة الإسلامية في تلك الحقبة وبعض فقهاء القانون المتأثرين بالنظريات
الليبرالية السائدة أنذلك ولذلك فهو يقسم الجرائم إلى:
1 ؛ جرائم تعزيرية
2 جرائم حدود
جرائم قصاص ودية
وفي هذا موافقة حقيقية للشريعة الإسلامية في تصنيفها للجرائم وفي نفس
الوقت هو يقسم الجرائم حسب جسامتها إلى مخالفة وجنحة وجناية وهو بذلك
ينسجم مع الفكر الليبرالي المؤسس والمتأصل من القانون الفرنسي الذي شرع
العمل به سنة 1811 فيما يعرف بمدونات نابليون وهذه التركيبة نتج عنها من
الناحية النظرية أن محاربة الجريمة في هذا القانون تهدف إلى:
تهذيب النفس وتربية الضمير التي هي بالأساس الأول تمنع الجريمة وهي في
الحقيقة فكرة متأصلة في فلسفة الشريعة الإسلامية، فالمتأمل في العبادات
التي يؤديها المسلمون يكتشف بدون شك أنها تهذب سلوك المسلم وتربي نفسه
فالصلاة التي هي عماد الدين " تنهى عن الفحشاء والمنكر " والصوم يربي
النفس على الصبر وقوة الإرادة ذلك أن أكثر الفساد والاضطراب في حياة
الناس إنما يأتي من ضعف الإنسان أمام شهواته ومن هنا ندرك مدى أهمية
الصوم في الإصلاح وتكوين المجتمع المثالي " وعليه فمحاربة الجريمة بناء
على المقتضيات المتأثرة بالشريعة الإسلامية والتي تظهر في علاقة العبد
بربه تهدف بالأساس الى مجتمع فاضل لا يعرف الشر والأشرار. أما الجانب
الأخر فيذهب إلى حماية المجتمع من المجرمين وهي بشقيها تهدف إلى تحقيق
الاستقرار وبث الطمأنينة بين أفراد المجتمع بدل القلق والخوف الذي يساور
الأشخاص خوفا من الجريمة.
وهكذا تضمن القانون الجنائي الموريتاني عقوبة الرجم والزنا والردة
وشرب الخمر والقذف وفي نفس الوقت تضمن عقوبة الإعدام والقصاص والدية
والسجن المؤبد والسجن لمدة محددة والحبس والغرامة، وبالتالي كانت
محاربته للجريمة تذهب في اتجاه بث الفضيلة في المجتمع وحمايته من
الرذيلة هذا من جهة ومن جهة أخرى حماية المجتمع من الإجرام والمجرمين
وبذلك اتفق القانون الجنائي الوضعي مع غاية وهدف الشريعة الإسلامية
الغراء.
وقد عرف القانون الجنائي الموريتاني تعديلات كثيرة ونظمت الدولة و حاربت
الجريمة بقوانين خاصة تتلاءم مع طبيعة وإشكال وأصناف الجريمة التي تتعدد
وتتغير بتغيرات الظروف والأمكنة، مثل القانون المتعلق بمحاربة الإرهاب
والمخدرات والمتاجرة بالبشر والتعذيب والاسترقاق إلى غير ذلك من القوانين
المكملة للقانون الجنائي.
وقد نطق القضاة الموريتانيون بهذه العقوبات دون تردد كلما كانت الوقائع
المرتكبة من قبل الأشخاص المنسوبة إليهم تنطبق عليها تلك الأوصاف.
لكن الانتقاد الذي يتلقونه من قبل هيئات المجتمع المدني وبصورة خاصة
اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان وبعض الهيئات " الوطنية المدافعة عن حقوق
الإنسان" ، وإدارة قطاع العدل من قبل أشخاص همهم الأول استعطاف هيئات
حقوقية غربية واستنساخ بعض النصوص الجامدة في فكرها وتطبيقها بعيدة كل
البعد عن واقع وفكر الموريتانيين قاد إلى تعطيل هذه العقوبات وأصبحت
ملغية بصورة فعلية رغم النطق بها من قبل المحاكم .
وهكذا كانت الملاحظات المتداولة من قبل هؤلاء "الحقوقيون" بأن العقوبات
المنصوص عليها تمتاز بالشدة والقسوة وان القضاة مدعوون للتدبر مليا قبل
النطق بهذه العقوبات القاسية وأن الدولة عليها أن تبذل مجهودا في تحسين
ظروف السجناء من حيث الإيواء والتغذية والنظافة والتكوين والتعليم وضرورة
فتح المؤسسات السجينة أمام المجتمع المدني.
ولا تخلو تقارير لجنة حقوق الإنسان الموريتانية من لهجة تحاملية على
القضاء وكثيرا ما رسمت صورة مظلمة وقاتمة عنه تصفه بالميل الدائم إلى
الحبس وتتهمه جزافا بإنكار المبدأ الدستوري القائم على افتراض البراءة.
وفي كثير من الأحيان يصور تقريرها القضاء و كأنه بالمرصاد لكل الحلول
الهادفة الى تحسين وضعية حقوق الإنسان في البلد.
وفي المقابل لا تطلب هذه الهيئات الحقوقية بتنفيذ العقوبات المحكوم بها
والتي هي عقوبات قانونية، فكان الاكتظاظ في السجن الناتج عن عدم تنفيذ
العقوبة وتعسف في الحبس النتيجة الحتمية لتلك السياسة النقدية أو
الإنتقادية التي لا نحمل القضاة المسؤولية عنها بقد رما نحمله إلى تلك
الهيئات التي سعت إلى تشويه سمعة البلد بادعات وافتراءات محضة أربكت كل
إصلاح وشجعت بشكل غير مباشر على ارتكاب الجريمة وزعزعت الثقة في الأحكام
القضائية ، فما هو مبرر حبس محكوم عليه بقطع اليد في جريمة السرقة وما هو
مبرر حبس من هو محكوم عليه بالجلد 100 جلدة في جريمة الزنا والمحكوم عليه
بالقتل قصاصا في جريمة القتل الى غير ذلك من العقوبات التي يقبع أصحابها
تحت حبس تعسفي لا مبرر له ولا طائل من ورائه فقط لأن هناك من يرى أن
تنفيذ مثل هذه العقوبات لا ينسجم مع حقوق الإنسان . وكان الأولى بهذه
الهيئات التي تدعي الحقوقية، المطالبة بتنفيذ العقوبة بحق هؤلاء أو
المطالبة بإطلاق سراحهم.
هذه المنظمات تقيم الدنيا ولا تقعدها عندما تقوم الشرطة بمداهمة أماكن
وأوكار الدعارة ومحلات ممارسة الرذيلة وتعتبر ذلك يشكل مساسا خطيرا
بالحريات العامة، وفي المقابل تصمت هذه الهيئات عند القيام ببعض
الممارسات غير الديمقراطية وأساليب القمع والجور التي تستعمل من قبل بعض
الجهات بدواعي البحث عن الجريمة والتي حولت أبناء الأحياء الشعبية الهشة
إلى متهمين بالإجرام وعليهم تبرئة أنفسهم.
وليس من المفيد لنا كموريتانيين، في ظل الظروف الراهنة التي يهيمن عليها
جرائم الإرهاب وتنامي العنف المنظم واستعمال المخدرات وتكوين جمعيات
الأشرار والاغتصاب المصحوب بقتل المجني عليها وارتكاب أبشع الممارسات
المشينة عليها، أقول ليس من المفيد لنا في إطار مكافحة الجريمة
والمجرمين العزوف عن تطبيق عقوبة القصاص والإعدام والحرابة.
وقد يكون مهما بالنسبة للسلطة التنفيذية الحالية الانتباه إلى تحركات
الشعب والإصغاء إلى صوت الشارع الذي يطالب في كل مرة تقع فيها جريمة
فظيعة وبشيعة وما أكثرها في السنوات الخمس الأخيرة بتطبيق عقوبة القصاص.
وفوق هذا وذلك ينبغي الشروع ومن الآن في وضع سياسة جنائية ذات أبعاد
اقتصادية واجتماعية تشجع الإحساس بالانتماء إلى هذا البلد الغالي ولا
يكفي لتجسيد ذلك الوقوف فقط عند العوامل الدينية والاجتماعية الموروثة
بل يجب تبني سياسة تعتمد على توثيق الروابط الدموية وخلق المصالح
المشتركة بين الأفراد والجماعات و الشعور بالانتماء إلى البلد الواحد و
المشترك الذي يتسع للجميع.
إن تفشي الفقر والأمية في الأحياء الشعبية والهشة في المدن الكبرى أدى
إلى امتهان السرقة والنهب والنشل و قد يكون وراء المتاجرة بالمخدرات.
والكل يعلم إن استغلال الفقير والأمي من طرف منظمات الأشرار لارتكاب
أفعال إجرامية مسألة معتادة. وعليه فإن محاربة الجريمة يجب أن تركز على
محاولة الرفع من المستوى الاقتصادي والمعيشي والتعليمي لهذه الأحياء
ومحاربة الأمية والتوجهات الفكرية المتطرفة التي قد تلعب أدوارا بارزة في
خلق بيئة التطرف الفكري الإجرامي الذي أصبح اليوم يعتبر من أهم روافد
الجريمة المنظمة، فالتطرف في الأفكار قد تتم ترجمته إلى أفعال إجرامية
خطيرة. فالجريمة لم تعد غريزة إنسانية بل أصبحت الظروف الاجتماعية
والاقتصادية والتوجهات الفكرية تلعب أدوارا بارزة في خلقها وعليه يجب في
إطار محاربتها النظر إلى عوامل لا ينبغي تجاهلها في واقعنا الاجتماعي مثل
الإقصاء والتهميش والفقر والتفاوت الطبقي .
و من المفيد لنا أيضا كنخبة أن نتوقف هذه اللهجة الإنتقادية والتحاملية
الموجهة إلى القضاء التي لا تخدم محاربة الجريمة فليس من الواقعية
والإنصاف رمي أحكام القضاء بالقسوة والشدة فهو يقوم بتطبيق القانون
الجنائي فالقطع عقوبة نص عليها القانون الموريتاني والجلد عقوبة نص
عليها القانون الجنائي الموريتاني وكذلك القصاص والإعدام وبالتالي يجب
تطبيقها من قبل القاضي كلما كانت الوقائع تنطبق عليها تلك الأوصاف. ومن
ينتقد تلك الأحكام عليه المطالبة بتغير القانون الجنائي وعلى الرغم من
تحفظنا على صياغة بعض نصوص هذا القانون فإننا نرى أن تطبيقه في الوقت
الراهن يعد من أحسن وسائل محاربة الجريمة في مجتمعنا .