الجريمة والنمو الاقتصادي / محمد طالب بوبكر

لاشك أن التغير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من سمات المجتمعات البشرية ولكن التغيير الذي شهدته هذه المجتمعات في العقود الأخيرة فاق حدود التصور والخيال بالمقارنة مع ماعاشته الإنسانية في العصور الماضية.

  وإذا كان ينتج عن التغيير الاجتماعي والاقتصادي عدد من الظواهر السلبية مثل ارتفاع الجريمة بأنواعها وما تحدثه من خلل في نظام القيم والسلوك .

  نرى بالمقابل أن النمو الاقتصادي ورفع معدلاته يعتبر هدف أسمى للسياسات الاقتصادية نقدية ومالية حيث تهدف السياسات الاقتصادية لتحقيق معدلات عالية للنمو الاقتصادي، وعلى الرغم من الآثار الايجابية لعملية النمو الاقتصادي إلا أن لها العديد من الآثار الجانبية التي تغري بارتكاب الجريمة ،كما أن ثمار النمو لايمكن أن ننعم بها في مجتمع غير امن تهدده الجريمة إذ أن الجريمة تقضم نسبة كبيرة من الدخل الوطني للمجتمع ينفق في مكافحتها وضبطها والتحكم بها مما يحرم جوانب هامة في المجتمع من الاستفادة من ثمار النمو والوصول إلى التنمية بكافة أشكالها.

تعد عملية تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية مطلبا أساسيا لكل المجتمعات، كما أن الأمن مطلب إنساني سعت وما تزال تسعى إليه المجتمعات وبذلت وتبذل في سبيل الوصول إليه الكثير من الجهود ولكن على الرغم من تلك الجهود المبذولة فإن الإحصائيات تشير إلى تزايد نسبة الإجرام واتخاذه صور وأشكال مختلفة.

  إن هذا التنامي في معدلات الجريمة وراءه بكل تأكيد العديد من العوامل والأسباب التي قد يكون من ضمنها تسارع النمو السكاني والبطالة وارتفاع أو انخفاض معدل النمو الاقتصادي فالعديد من الدراسات ربطت بين الجريمة وغيرها من الظواهر الاقتصادية.

ويمكن طرح مشكلة من خلال ما تفترضه نظرية النمو الاقتصادي من وجود عناصر إنتاج قوية وبنية اجتماعية متماسكة لتحقيق النتائج المأمولة في عالم تنافسي .

  فما لم تكن البنية الاجتماعية للمجتمع والفرد محمية فإن الإنتاجية الاقتصادية ستكون في حدها الأدنى ، كما أن التفكير بالأمن الاجتماعي ليس مجرد جانب إنساني وحقوقي بل اقتصادي بحت.

  الحديث عن الجريمة والإجرام عموماً كالحديث عن الأوبئة الفتاكة والزلازل والأعاصير والفيضانات، لأنها كلها أحداث مدمرة تلحق الأضرار بالبشر وتنشر فيهم المآسي والويلات.

  والإجرام كذلك طاعون متغلغل في خلايا المجتمع الإنساني ينشر الهلع واليتم والضياع في ضحاياه الكثيرين.

  وتعتبر الجريمة ذات أبعاد مختلفة فهي ظاهرة اجتماعية ولها أبعاد اقتصادية وأخرى اجتماعية مما يزيد من تعقيدها ويفرض اعتماد وسائل تحليل متعددة لفهم طبيعتها وآثارها ومن ثم تحديد آليات التأثير عليها،وقد اهتم أكثر علماء الاجتماع بتعريف الجريمة لوضع معيار للأفعال التي تكون السلوك الإجرامي يمكنهم من خلاله تمييز هذا السلوك عن غيره من أنماط السلوك الإنساني الأخرى.

كما أن الوقوف على عوامل الجريمة عملية مهمة في التخطيط لمكافحتها من خلال وضعها في الأولوية في البرامج والخطط المستقبلية.وتبرز أهمية  هذا المقال من خلال تسليط الضوء على الجريمة ففي ظل ارتفاع معدلاتها تهتز مصداقية المجتمع في تأمين بيئة مناسبة لنشاطاته وخاصة الاقتصادية منها حيث يصبح من الصعوبة بمكان توطين رأس المال المحلي ليسهم في عملية النمو والاستقرار وبما أن العنصر البشري هو أهم مقومات النمو الاقتصادي وبنفس الوقت هو محور الجريمة والمستهدف منها سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبالتالي تأتي أهمية هذا مقال من خلال لفت الانتباه من أن النمو ومن بعده التنمية تبدأ بالناس وبتكوين قدراتهم وأن الخصوصيات الحضارية والتقاليد الخاصة بكل حضارة تعتبر دفعاً لعملية التنمية التي لا يمكن الوصول إليها دون تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية ومالم تكن نقطة الانطلاق من التركيز على العنصر البشري وحمايته وتحصينه من الجريمة وويلاتها.

  والتطور الاقتصادي لا يصيب مستوى المعيشة وحده بل يصيب أيضاً طبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع حيث تزداد تشبعاً وتعقيداً، تبعاً لاتساع نطاقه، وازدياد عدد السكان باطراد في العالم، وانتشار المؤسسّات الاقتصادية المختلفة، وإذا كان بالإمكان القول بأن حياة المجتمعات الزراعية أقلّ صخباً وحركة واضطراباً من حياة المجتمعات الصناعية بوجه عام ممّا يؤثر على تحديد حجم ونوع الإجرام، فإن ذلك يجب ألاّ يغفل بروز وسائل الاتصالات والتنقلات السريعة في العصر الحديث مما يقلل من أهمية هذه الفوارق .

  ومهما يكن من أمر التحّول الاقتصادي يصطحب بتغيّرات يمكن أن تؤّثر بصورة فعّالة على ظاهرة الإجرام، وذلك من خلال جموع الرغبة نحو الربح الكثير الذي يترك بصماته على حجم السكان، والنزوح من الريف إلى المدينة حيث تتركز عادة الأعمال الصناعية، وتنشأ الصراع الحاد بين العّمال وأصحاب العمل، وتشّعب التجارة بحيث تصبح مرهونة إلى حد بعيد بالأحداث الأولية، وشيوع حالة المنافسة غير المشروعة، والتقدم التكنولوجي الذي أدى إلى حلول الآلة محلّ العنصر البشري وما ترّتب عليه من وجود فئات كبيرة من العاطلين عن العمل في معظم البلدان قد تضطر إلى اللجوء إلى مسالك غير قانونية لكسب معيشتها .

و تعبر التقلبات الاقتصادية عن عدم ثبات الوضع الاقتصادي وسرعة تبدله، كارتفاع وانخفاض الأسعار ، وتقلب قيمة النقد والدخول الفردية ، حيث يؤثر بطريقة غير مباشرة على نهج الإنسان وأسلوب معيشته.

والفقر  ظاهرة معقدة ذات أبعاد متعددة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وتاريخية، ويختلف هذا المفهوم باختلاف المجتمعات والثقافات، وحتى الأزمنة لذا يصعب إعطاء تعريف موحد له. إن المتفق على مفهوم الفقر أنه\" حالة من الحرمان المادي التي تتجلى أهم مظاهرها في انخفاض استهلاك الغداء، كما ونوعا وتدني الحالة الصحية والمستوى التعليمي، والوضع السكني، والحرمان من تملك السلع المعمرة والأصول المادية الأخرى و فقدان الاحتياطي والضمان لمواجهة الحالات الصعبة كالمرض والإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات\". و\"الفقر مجموعة من الظروف والأوضاع الحياتية التي تعيشها فئات اجتماعية وليس سمات تخص الفقراء دون غيرهم، وهي أوضاع تتسم بالحرمان على الصعيد المادي و الاجتماعي والبيئي، وقد تشمل أشكال الحرمان أفرادا أو عائلات فضلا عن مناطق جغرافية أو فئات اجتماعية\". من الظواهر الاجتماعية التي لها صلة قوية بالمستويات الاقتصادية المتدنية والتي تلعب بدورها دوراً كبيراً في دفع الفرد إلى ممارسة الجريمة هي ظاهرة الفقر وغالباً ما يصنف علماء الاقتصاد الفقر على أنه مدخل اقتصادي أساسي في تفسير الجريمة وصلة الفقر بالجريمة ليست صلة حديثة فمنذ فترة طويلة أكد الفلاسفة والمصلحون الاجتماعيون على أن الفقر يلعب دوراً مهماً في دفع الفرد إلى ممارسة الجريمة وقديماً أيضا قال \"سقراط\" (أن الفقر هو أبو الثورة وأبو الجريمة) وحديثاً قال \"كلارك\" أن جرائم الفقراء وجرائم الناس المسلوبي القوة غالباً ما تكون بسبب السخط والكره اتجاه الأغنياء وان الفقراء قد يحملون حملاً على ممارسة الجريمة من اجل توفير الغنى والثروة وهذا يعني أن ظروف الفقر اللإنسانية كما يقول كلارك هي التي تخلق من بين الفقراء من يتجه إلى ممارسة الجريمة.

و تشير البطالة ‏ايضا  في وجه من وجوهها إلى ضعف النظام الاقتصادي وسوء تنظيمه وتخلفه وعدم عدالته، فهي تهيئ للإنسان فرص الانحراف والانسياق في تياره المدمر نتيجة للأثر السيئ المترتب عليها، سواء لناحية الفراغ الذي ينشأ عنه واستغلاله في طريقة سيئة ، أو لناحية حرمان الإنسان من وسيلة مشروعة تحقق رغباته فينعكس سلباً على تصرفاته، فالمهنة تعتبر مصدر أمان واستقرار للإنسان، وتتيح له القيام بدوره في المجتمع ، وهي ناحية أخرى تحرره من سلطة الآخرين.

وجود اثر موجب ومعنوي لمعدل البطالة على الجريمة وهو مايشير إلى أن التدهور في الظروف الاقتصادية للدولة سوف يكون له اثر موجب على هذه الجرائم وهو ما يدعم فرضية اقتصاد الجريمة القائلة بأن زيادة معدلات البطالة سوف تؤدي إلى تحقيق معدلات مرتفعة لجرائم الاعتداء على الممتلكات.

  إن التعرف على الأثر الاقتصادي للجريمة مهم جداً لأنه يعطينا فكرة واضحة عن الفوائد التي تعود على المجتمع من منع الجريمة.

  فإن تقييم الأثر الاقتصادي للنشاط الإجرامي يعتبر خطوة مهمة عند إعداد الميزانية وتقديم سياسة عامة ذات أثر فعال في محاربة الجريمة.

 ومن أخطر آثار الجريمة، إفساد كل سياسة اقتصادية نقدية كانت أم مالية.

  فالجريمة تنخر في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمختلف بلدان العالم مما يشعر بوطأتها.

  كما أن النمو الاقتصادي تغيير كمي يمكن أن يحدث في اتجاهين ،احدهما مرتبط بزيادة إنتاجية العمل والذي عادة لا يؤدي إلى خلق فرص عمل إضافية باعتباره ناتج عن تحسن الأداء الإنتاجي لدى العمال الموجودين أصلاً، والاتجاه الأخر مرتبط بزيادة كمية في عرض العمل أي خلق مناصب عمل إضافية تؤدي إلى تخفيض في نسبة البطالة حسب طبيعة النمو المحقق ،وبالتالي يجب أن يكون النمو المحقق يؤدي إلى خلق مناصب عمل إضافية حتى نستطيع تخفيض نسب البطالة والتي تعتبر احد محددات عرض الجريمة ،علما إن الزيادة الطبيعية في عدد الوافدين الجدد لسوق العمل تشكل ضغط كبير على قدرة الاقتصاد على امتصاص هذه الزيادة.

  كما إن النمو من خلال قيامه بتشغيل كافة قطاعات المجتمع يقود بالفرد إلى النشاط ولا يتركه عرضة لأهواء النفس وأمراضها التي تنشأ من الفراغ فالمجتمع في حالة نشاط وعمل دائم.

  فالجريمة جرثومة اجتماعية لابد من استئصالها وإلا بدأت في التوالد عاجلاً أم أجلاً وأدت إلى سقم المجتمع وتضعضع صحته وإنه من الممكن الحد من الجرائم باليسير من الدعم والترشيد لمجهودات مكافحة الجريمة وسيكون لهذا مردود إقتصادي واجتماعي كبير .

من خلال الدراسة النظرية نرى وجود عامل مشترك بين الجريمة والنمو الاقتصادي هو العنصر البشري فهو من يقوم بالجريمة وهو من يكافحها كما انه المعول عليه في تحقيق النمو الاقتصادي.

  ومنه يتبين أن الأمن حاجة أساسية للأفراد كما هو ضرورة من ضرورات بناء المجتمع ومرتكز أساسي من مرتكزات تشييد الحضارة فلا امن بلا استقرار ولا حضارة بلا امن،ولا يتحقق الأمن إلا في الحالة التي يكون فيها العقل الفردي والحس الجماعي معاً خاليا من أي شعور يهدد السلامة والاستقرار.

ختاماً...إذا كانت الكلمة الأخيرة في كل مقال تعبر عما يجول في ذهن ‏‏القارئ فإن هذه الكلمة في موضوع الجريمة والنمو لا يمكن أن تكون سهلة ولا نهائية، والسبب في ذلك أن منطق هاتين الظاهرتين يثير مشاكل معقدة ذات صلة وثقا بالأوضاع السياسية والاجتماعية في أي بلد ما ...

 

الكاتب:محمد طالب بوبكر

29. يونيو 2021 - 10:16

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا