ظلال المأساة المالية / أحمد ولد الوديعة

لم تبدأ المأساة في  جمهورية مالي مع العمليات العسكرية  الفرنسية الافريقية الجارية منذ الحادي عشر من الشهر الماضي، وهي لم تنته بكل تأكيد مع إعلان  السيطرة  على المدن الرئيسة في إقليم أزواد المضطرب، فالمشكل  قديم معقد و لانهاية له تلوح في الأفق  رغم استعجال البعض في  إعلان النصر بأي معنى يكون النصر وتحت أية راية ولصالح أي طرف أوأي عرق ولون.

 ومع أن مالي قريبة جدا، ويدرك الجميع تداخل أمنها مع أمننا، وارتباط إشكالاتها مع إشكالاتنا، فإن هناك حالة من التبسيط والمجازفة والقفز على الحقائق لتصفية حسابات هنا أو هناك تطبع أغلب ما كتب حتى  الآن عن  هذه المأساة الدامية باللغتين العربية والفرنسية ، وهو ما يقضي توقفا مع عدد من المفارقات  بمنهجية تحاول أن تتجاوز الشكل إلى الجوهر وأن تقرأ ما يجري برؤية تجمع بين التأسيس على جغرافيا وتاريخ المشكل وتداخله الواعي وغير الواعي مع جغرافيتنا وتاريخنا وأوجاعنا وجروحنا النازفة أو المؤجلة.

 

 - الدين واللون والعرق

 

 كان من أول  الانزلاقات  التي عرفها تعاطي نخبنا السياسية والفقهية مع  المأساة المالية ما حصل من تصنيف لما يجرى على أنه حرب دينية ، وهو تصنيف استفز علماء إفريقيا والمجلس الإسلامي الأعلى في مالي بقيادة الشيخ محمود ديكو، وهم محقون في ذلك، فالمشكلة لم تبدأ مع العمليات العسكرية  الفرنسية الافريقية بل هي أقدم من ذلك بكثير ،إنها في الحقيقة مشكل دولة مركزية فشلت  - كما فشلت دول مشابهة كثيرة - في تحقيق العدالة بين المركز والأطراف، بين المجموعة المهيمنة والمجموعات المهمشة، وهو بعد ذلك مشكل مجموعات مسلحة  تمتلك رؤية خارجة على مجمل النظم وتصورات الحكم  ومشاريع المجتمع المقدمة من  مختلف  البدائل السياسية المطروحة للتداول في أغلب دولنا الإسلامية .

إن المشكل  في مالي  مشكل داخلي في بلد مسلم بين مكونات مسلمه كلها وقد دخلت أطراف خارجية  على الخط لدعم هذا الطرف أو ذاك لكنها – مهما كان الرفض قويا لتدخلها في الماضي والحاضر والمستقبل –  تدخلت لأن هناك مشكلا بين " طائفتين من المسلمين" وقد كان الأولى التأسيس على هذه الأرضية الواضحة الجلية بدل التأسيس على أرضية أخرى.

 وفي مقابل التسرع السابق في التصنيف  حصل تسرع وانجراف آخر وراء تفسير لوني سهل للمواقف الرافضة للتدخل الفرنسي ، وهو تفسيريقفز على حقيقة الاختلاف القديم المتجدد حول موضوع " الإستعانة بالأجنبي " في النزاعات الداخلية وهو خلاف  طبيعي أن ينحاز المثقف أو المفكر أو السياسي  لطرف من أطرافه وفق منطلقاته الفكرية وتحليلاته للواقع ومئالاته، لكن الركون لتفسير لوني  جاهز غير دقيق ومضر بمستقبل القضية وبظلالها البعيدة والقريبة .

ولكي تكون الفكرة واضحة أكثر يمكن أن نعيد التنقيب في سجلات المواقف الفقهية من دخول المستعمر الفرنسي لموريتانيا لنرى اختلافا بين من " نصح العامة والخاصة بالحذر من محاربة لفرانصة" و من ذهب أبعد من ذلك مؤسسا لأفضلية وجودهم على حال الفوضى الذى كان سائدا، بين هؤلاء وبين من أعلن الجهاد  عليهم، ومن أفتى بالهجرة قولا أوعملا ،لقد كان كل هؤلاء يصدرون عن قناعات شرعية مؤسسة على فهمهم للنص وتقديرهم للواقع وكان فيهم فقهاء من مختلف المناطق والجهات والألوان.

 وحتى عندما نعود لسجل المواقف الفكرية والفقهية والسياسية من التدخل الغربي لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت، أو الاحتلال الأمريكي للعراق بعد ذلك سنجد اختلافا كبيرا، وسنجد بشكل واضح رفضا إسلاميا عاما لمواقف القوى الإسلامية المحلية  التي جنحت في الحالتين لمنطق الضرورة في التعاون مع الأجنبي للتخلص من ظلم ذوي القربي .

وفي كلتا الحالتين وقف التيار الإسلامي الموريتاني -  مثلا- مع الموقف الرافض للتدخل الأجنبي في الكويت والعراق رغم أن حركات إسلامية يشاطرها نفس المنطلقات الفكرية في البلدين كانت ترى رأيا مختلفا وتتصدر  المشاريع السياسية المترتبة على  الواقع الذى انجزه التدخل الأجنبي.

  القول إذا إن التيار الإسلامي الموريتاني وقف ضد التدخل العسكري الفرنسي في مالي فقط لأنه يستهدف من يعتقد  أنهم يتقاطعون معه في نفس اللون كما انساقت كتابات بالفرنسية لصحفيين محترمين، يدركون أكثر من غيرهم أن التيار الإسلامي الموريتاني ليس تيارا لونيا ولا عرقيا بل إنه تيار وطني ينطلق من رؤية إسلامية جامعة ولعل مواقفه من القضايا العرقية واللونية على المستوى الداخلي خير تعبير عن ذلك. هذا القول مبني على حكم غير مؤسس حتى لا أقول إنه يستهدف تسجيل نقاط لاعتبارات سياسية أو ايديولوجية ضد تيار يسعى بإصرار لاختراق الحواجز العرقية واللونية وفق رؤية قائمة على ضرورة إقامة دولة العدل  وإنهاء الاسترقاق ومخلفاته، و اعتمادالتمييز الإيجابي لصالح المتضررين منه ،والتسوية العادلة لملف الإرث الإنساني، وتمكين العائدين من كامل حقوقهم في المواطنة  وتعويضهم عما لحق بهم من أضرار.

 

- تحالفات بالمقلوب

 

 أما المفارقة الأخرى الأبرز في  تعاطي نخبتنا  السياسية مع المأساة المالية فهي  مفارقة  جديرة بالتأمل  حقا حيث يلاحظ أن أغلب من ينشطون ضد التهميش في موريتانيا ويرفعون الصوت من أجل تحقيق العدل بين مختلف المكونات كان مزاجهم السياسي أقرب لمن يمارسون التهميش في مالي، وكان غضهم الطرف لافتا عما حصل ويحصل من انتهاكات حقوقية بحق ضحايا المجموعات المهمينة  هناك، تلك الانتهاكات التي وثقتها هيئات حقوقية دولية  ذات مصداقية معروفة.

 إن هذا التحالف غير الواعي بين بعض  ضحايا التهميش في موريتانيا وممارسيه  في مالي يكشف كما علق أحد المدونين عن هشاشة " العمق المبدئي" في  مواقف بعض نخبنا السياسية فقد كان الأولى أن ينحاز ضحايا التهميش هنا إلى ضحاياه هناك  بدل حشر أنفسهم في التخندق  مع موقف هناك يؤسس على نفس المقولات النظرية التي يتأسس عليها نظام التهميش هنا.

 وضمن نفس الحالة الغريبة  و في الوجه الآخر من الصورة رأينا كيف أن قوى سياسية  ظلت ترفض أي حديث عن الخصوصية الثقافية أو اللغوية  في موريتانيا وتعتبر مجرد الحديث عن تقاسم السلطة والثروة خيانة كبرى  ومتاجرة بحقوق الإنسان، وعمل طابور خامس وجدنا هذه القوى ترفع الصوت متضامنة مع القوى المطالبة بذات الحقوق في مالي بلغة فصيحة لاتردد فيها ولاتحفظ ولا جمل اعتراضية حتى.

 

-  ما هو أهم

 

 إن المأساة الجارية في مالي  أكبر من أن تكون  فرصة  لتصفية حسابات قصيرة الأجل، وأعمق من أن تنفع معها التفسيرات السطحية البصرية فهي تهديد لنا جميعا، بكل ما يعنيه الضمير الجمعي وما يحيل إليه؛ تهديد للبلد والوطن والمنطقة والأمة، لذلك ينبغي أن نقرأها من جذورها العائدة إلى فشل دولنا في مرحلة ما بعد الاستعمار في إدارة  تنوعنا العرقي والثقافي واتساعنا الجغرافي.

  إن علينا  أيضا  أن نقبل الاختلاف في تقدير الموقف من التدخل العسكري الفرنسي والافريقي فمن يرفضونه ليسوا متحالفين مع القاعدة، ومن يقبلونه ليسوا  قوة استطلاع في الجيش الفرنسي فهما موقفان يتأسسان على رؤى وتقديرات لها نصيبها من النظر.

 وفي كل  الأحوال علينا أن نحافظ على الحد الأدني من الانسجام مع قناعاتنا المبدئية فالهيمنة والتهميش والإكراه والالحاق الثقافي والتصفيات العرقية مرفوضة وقعت في موريتانيا أو مالي ضد أبيض أو أسود أو ملون في   بداية تسعينات القرن الماضي هنا في موريتانيا أو مع مستهل العام  الجديد هناك في مالي أو على أي  رقعةجغرافية أخرى أو في أي زمان آخر "  فالعدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لايباح قط بحال ".

3. فبراير 2013 - 21:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا