اعلم – وفقني الله وإياك لكل خير- أن الزراعة في شمامه مشكلة عويصة تبدأ بتعريف أصحابها؛ فإذا قلت إن منهم مزارعين بالفعل ومزارعين بالقوة وقعت في لبس وأوقعت فيه، لأن المزارعين بالفعل مزارعون بالقوة أيضا كما سأوضحه أدناه بإذن الله؛ معتذرا عن استعمال لفظ "المزارعين" طلبا للمألوف، فالمفاعلة لا تكون بين المرء ونفسه؛ وإنما هم زارعون فقط.
وخروجا من هذه المتاهة أقول إن منهم مزارعين حقيقة ومزارعين مجازا؛ فالمزارعون حقيقة قوم جاؤوا من العاصمة بعد ما نزحوا إليها من أرجاء شتى فاستولوا على الأرض استقواء بالمال وقرار السلطات، ومحاباة الأنظمة وجورها.. ولذا فهم مزارعون بالفعل وبالقوة معا. وهؤلاء هم أغلب المزارعين هناك الآن.
أما المزارعون مجازا فقسمان أيضا:
أ. قوم يتخذون الزراعة معارج عليها يظهرون، بها يلِجون المكاتب وينتهزون الفرص ويستقبلون الوفود ويقابلون الكبراء، ويتحدثون إلى الإعلام.. وينالون بها القرض الزراعي فيصرفونه بعيدا عن شمامه وما يقرب إليها من قول أو عمل؛ ممتثلين المثل المأثور "خذ خيرها ولا تجعلها وطنا". وأغلب هؤلاء من سكان المنطقة الأصلاء مع استثناءات تؤكد القاعدة.
ب. قوم ألِفوا الأرض فاستنعموا خشونتها واستمرؤوا هواءها الوخيم فما صدهم "السعدان عنها ولا صدا" ولا يتصورون إمكانية العيش في غيرها إلا إذا عاشت الأسماك في البر. فيها يحيون، وإليها يحِنُّون أينما كانوا، وفيها يُدفنون ولو ماتوا في باريس أو واشنطن..
هؤلاء عانوا البأساء والضراء جراء اغتصاب أرضهم وملاكها الجدد الذين احتلوا ساحنهم ثم رأوهم قوما غير مرغوب فيهم وطفقوا يسومونهم الخسف والحيف آناء الليل وأطراف النهار، بجشع لا حدود له. وجراء السلطات التي تعاملهم معاملة الأجانب في منشئهم ومحياهم ومدفنهم، وإذا تكرمتْ عليهم منحت خمسين شخصا منهم ما لا يرضى بضعفيه رجل أعمال واحد أو إداري سابق، لأنها لا تعترف لهم إلا بالتعاونيات!
أذكر أن أحد السكان هناك قال لنا يوما من سنة 1995 إن المغتصب الذي يحاصر قريته ويضرب مواشيها بالرصاص ويسمم لها المستنقعات لو أعطاهم زكاة حرثه لتغير حالهم بين عشية وضحاها!
وأذكر اجتماعا لمزارعي كرمسين جرى في تلك الأثناء فكاد يقتصر على كبار رجال الأعمال وولاة وحكام سابقين عملوا هناك.
إذا تمهد هذا فاعلم – يا رعاك الله- أن العناية بشمامه منة في رقاب أغنياء العاصمة، وافتيات على الشعب الموريتاني الذي تصرف ممتلكاته في مصالح أفراد لا يحتاجونها، ووبال على السكان الشرعيين، لما فيها من ترسيخ الغصب والتمييز والمحاباة..
ويبقى الأمل متعلق السكان الوحيد؛ فقبل سنوات (وأنا في دكار) جرى الحديث بيني وبين أحد أهل شمامه الأصليين حول معاناتهم من ظلم الإدارة والمتملكين الجدد وسوء جوار الأخيرين فقال لي بثقة وحزم: شمامه لا يملكها إلا أهلها.
قلت متعجبا: لقد ملكها غيرهم!
قال: هذا ليس ملكا.
ولما استوضحته قال: قد يغصبها غاصب تحت حراب السلطة أو بوسائله الأخرى، لكن ورثته لن يمارسوا تملكا عليها لأنها لا تلائم من لا يعرفها، وهكذا تعود لأصحابها الشرعيين رغم أنوف الغاصبين.