حققت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة قفزات كبيرة في مجال الزراعة على أمواج الأثير، برغم أنها ظلت تحتكر ذيل قائمة دول غرب إفريقيا في مجال الزراعة على الأرض.
ولم يكن لتلك الجعجعة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس أي طحن يذكر على موائد الموريتانيين.
فهل يعني التعيين الأول من نوعه لوزير وأمين عام للزراعة من داخل القطاع، أكاديميا ومهنيا، إدراك رئيس الجمهورية أخيرا للوضعية البائسة لموريتانيا في هذا المجال؟
بداية أشير إلى صفتين أساسيتين غريبتين تجمعان بين جميع وزراء الزراعة وأمنائهم العامين ,خلال نحو عقدين ,كنت فيهما من المبتلين بالعمل في هذا القطاع، وكأن هاتين الصفتين هما أهم شرطين للتعيين في هذين المنصبين:
أولى الصفتين: عدم امتلاك أي تكوين أكاديمي في المجال الزراعي (باستثناء السيد سي آدما الذي لم يلبث في الوزارة إلا بضعة أسابيع ).
وثانيتهما: افتقارهم إلى أية تجربة في الإنتاج الزراعي
فحتى مع بداية القفزة المفاجئة التي حققتها الحكومة في الاهتمام بالإنتاج الزراعي ,سنة 2007 كان اختصاص وزير الزراعة التاريخ والجغرافيا، واختصاص أمينه العام الإحصاء.
أما مستشار الوزير الأول، المكلف بمتابعة قطاع الزراعة، فكان مختصا في مجال البنوك..!
إنها معايير التعيينات في "البلاد السائبة" .
ولا أجد تفسيرا لهذا الانقلاب المفاجئ في المعايير الحكومية ,باختيار مهندسين زراعيين في أعلى منصبين في وزارة الزراعة إلا بوعي حكومي متأخر بالوضعية الكارثية لهذا القطاع، الذي يصارع الناس فيه من أجل البقاء، بلا تمويل ,ولا تأمين ,ولا دعم ,ولا تأطير ,ولا حتى بذور جيدة .
هذا في الزراعة المروية على ضفاف النهر، أما في الزراعة المطرية فمازال المزارعون يعتمدون على العمل العضلي البشري ,ويزرعون بذورا بدائية، مجهولة التراكيب الوراثية، في غياب تام للمعايير العلمية، من حرث، أو تسميد، أو إرشاد، أو دورة زراعية .
وما زالت السدود الكبرى في البلاد مثل مال ومقطع لحجار وكلاكه لم تعرف الزراعة المروية برغم أن الكثير منها يحجز كميات كبيرة من المياه لمدة سنة.
كما أن الأراضي تحت السدود ما تزال مهملة بشكل كامل برغم سهولة ربها بالجاذبية من دون الحاجة إلى أي مصدر للطاقة.
وبما أن المقام لا يتسع لبسط المعوقات الكبرى للإنتاج الزراعي فإننا نكتفي بإحالة القارئ الكريم إلى مقالينا السابقين، على جوجل، اللذين خصصناهما لهذه المشاكل:
1) موريتانيا: الزراعة خارج التاريخ
وهو مقال موثق نشرته المواقع الألكترونية على ثلاث حلقات متفاوتة
2) موريتانيا: الزراعة على طريقة الهنود الحمر
3) ويحق لنا أن نتساءل بشكل صريح: هل يملك الوزير الجديد, وأمينه العام القدرة على تدارك الزراعة "بعدما مالت دعائمها؟"
وهل هذان التعيينان كافيان لتجنيب "تايتنيك الزراعة" الاصتدام بجبل الجليد؟.
لا نملك معلومات كافية عن الوزير، لكن المؤشرات الأولية، المستقاة من بعض الخطوات الصغيرة تدفع إلى قدر من التفاؤل ,نرجو أن تثبت الأيام أنه مبرر.
أما الأمين العام الجديد فهو مهندس مخضرم، عرفناه في جلسات التفاوض بين الوزارة ومسئولي النقابات الزراعية ,على مدى بضعة عشر عاما.
وكثيرا ما كنا على طرفي نقيض حول المواضيع المناقشة.
وهو مفاوض صعب، ذو صدر رحب ,يملك قدرة عالية على الإقناع، كما أنه يتميز بانفتاح على الرأي المخالف، وهي ميزة نادرة بين مسئولي الصف الأول في الوزارة، الذين يحولون الاختلاف في الرأي غالبا إلى عداء شخصي.
يضاف إلى هذا معرفته العميقة بمشاكل القطاع الذي تدرج في مناصبه المختلفة.
لكن أيا كانت قدرات الوزير وأمينه العام ورغبتهما في الإصلاح، فإن نجاحهما مرتبط بخمس خطوات لا غنى عنها:
1) تبلور إرادة حكومية جادة لوقف نزيف الواردات الغذائية السنوية التي تقدر بنحو 167.000.000.000 أوقية قديمة حسب أرقام مكتب الإحصاء الحكومي، وتأمين السيادة الغذائية، على غرار السياسات المطبقة في دول الجوار.
ذلك أن أرقام الميزانية العامة تدل على أن ما تقوله الحكومة حتى الآن عن الاكتفاء الذاتي من الغذاء ,ما هو إلا مجرد أماني سياسية. إذ كيف تتحقق نهضة جادة في قطاعي الزراعة والبيطرة بنحو 3% من الميزانية العامة للدولة؟.!
(خصصت مالي التي تعيش حربا أهلية 15% من ميزانيتها العامة لسنة 2021 للزراعة، بينما خصصت 10% للزراعة في ميزانية 2020).
2) اختيار طاقم فني يجمع بين الكفاءة والإخلاص والطموح بعيدا عن الزبونية في التعيينات.
3) اعتماد مبدأ المحاسبة في التعامل مع مسئولي الوزارة، وهو مبدأ غائب حتى الآن
4) تفكيك منظومة إنتاج زراعة الكذب داخل الوزارة، والتخلص من مهندسيها، مع اعتماد الشفافية في التعامل مع الحكومة وشركاء الميدان والرأي العام.
5) الانفتاح على الرأي الآخر، والاستفادة من تجارب وآراء الأطر في القطاع الزراعي
وما لم تتحقق هذه النقاط فإن زراعة الكذب تظل المجال الأرحب أمام الوزير ومساعده.
لكننا نقول لهما، مقتبسين من الحكمة المكتوبة على مدخل قصر أمير الكويت (قصر دسمان):
لو دامت زراعة الكذب لغيركما لما وصلت الوزارة إليكما .
وكما يقول المثل الشامي: "أللي إجرب المجرب عقلو امخرب"، وهو ما يقابل الحكمة العربية: "العاقل من اتعظ بغيره" .