قد يكون من المهم جدا أن يتم تقديم بعض الأفكار العملية من خارج الصندوق كمشاركة عن بعد في الأيام التشاورية حول التعليم، خاصة وأننا نعلم بأن المتشاورين سيركزون أساسا على الأفكار النظرية، وعلى دور السلطة ومسؤولياتها في عملية الإصلاح مع إهمال الأدوار والمسؤوليات الأخرى.
ومع أنه لا جدال في أهمية دور السلطة في أي إصلاح مهما كان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعليم، والذي يعد من أكثر القضايا تعقيدا، إلا أنه مع ذلك لا ينبغي أن نتجاهل أو نهمش الأدوار الأخرى، ذلك أن عملية إصلاح التعليم هي مسألة في غاية التعقيد ولابد لها من مشاركة الجميع لكي تأتي بنتائج ملموسة.
ومما يؤسف له بأن الجميع لن يشارك في هذه الأيام، وذلك بسبب أن النظام لم يخلق مناخا سياسيا مقبولا يمهد به للأيام التشاورية، فهو لم يحاول أن يخفف من حدة الأزمة السياسية من قبل تحديد موعد للأيام التشاورية. كما أن المعارضة بدورها قد أخطأت ، وذلك عندما قررت عدم المشاركة في هذه الأيام. كان على المعارضة أن تعتبر المشاركة في مثل هذه الأيام هي مسألة في غاية الأهمية لأهمية إصلاح التعليم، ولأن المشاركة هي أيضا ضرورة يفرضها الواقع، ذلك الواقع الذي يفرض على المعارضة المشاركة في نقاشات البرلمان الذي انتهت صلاحياته، والمشاركة كذلك في بعض المناظرات التلفزيونية، ودون أن يترتب على تلك المشاركات أي تغيير في موقفها السياسي من النظام القائم.
لن يشارك جميع من يفترض فيهم أنهم من المعنيين المباشرين بالتشاور حول إصلاح التعليم، وذلك مما يؤسف له حقا، ولكن ذلك لن يمنعني من أطرح السؤال التالي : ما الذي يمكن أن يساهم به ميدانيا مواطن عادي مثلي ومثلك في عملية إصلاح التعليم حتى ولو كان غير معني بشكل مباشر بعملية إصلاح التعليم؟
هذا السؤال طرحته على نفسي لأني أزعم بأن من أهم أسباب تخلفنا في هذا البلد هو أن كل واحد منا بدلا من أن يخصص ساعة واحدة من عمره للتفكير فيما يمكن أن يفيد به هذا المجتمع، فإنه ـ بدلا من ذلك ـ يقضي عمره كله في رصد أخطاء الآخرين، وفي تضخيم تلك الأخطاء باعتبارها هي السبب الوحيد لهذا التخلف الذي نتخبط فيه.
لقد أصبح من الصعب جدا أن تجد موريتانيا واحدا منشغلا بالبحث عن الشيء الذي يمكن أن يفيد به بلده، ولكنك قد تجده متفرغا للبحث عن أخطاء الآخرين وترصدها، لذلك فلا غرابة أن تجد كل واحد منا لا يفعل أي شيء مما يمكن أن يفعله، وحجته في ذلك ـ وهي حجة قد لا يصرح بها علنا ـ بأنه لن يتحمل مسؤوليته في الإصلاح من قبل أن يتحمل كل فرد في هذا المجتمع مسؤولياته الكاملة. وكأن لسان حاله يقول: لن أكون مواطنا صالحا من قبل أن تكون السلطة سلطة صالحة، والمعارضة معارضة صالحة، والشعب بكامله شعبا صالحا: من البواب إلى الوزير، ومن المتسول إلى رجل الأعمال، ومن الأمي إلى العالم.
ذلك هو حالي ولن أنكره، وذلك هو حالكم أنتم أيضا فلا تنكروه، ولكن ورغم الاعتراف بتلك الحقيقة إلا أني سأحاول ـ وفي ذلك مشقة كبيرة ـ أن أكسر تلك القاعدة، وأن أكون مواطنا صالحا خلال مدة كتابة المقال.
ولكي أكون مواطنا صالحا فإنه لابد لي من أن أسأل نفسي السؤال التالي: ما الذي يمكن أن أساهم به في إصلاح التعليم، حتى ولو لم تقم السلطة بدورها، ولا المعارضة، ولا النخب، ولا الأسرة التربوية؟
قطعا هناك أشياء عديدة يمكنني أن أساهم من خلالها في إصلاح التعليم، ومن أهم تلك الأشياء، هو أنه عليَّ أن أبدأ ـ ومن الآن ـ في تنفيذ فكرة قدمها طبيب موريتاني يعمل في الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد طلب مني ذلك الطبيب أن أقدم فكرته من خلال برنامج "خطوة إلى القمة"، وهو ما استجبت له، وسيكون هذا الطبيب هو ضيف الحلقة الخامسة من البرنامج المذكور، وهي الحلقة التي ستبث ـ إن شاء الله ـ في الموعد المعهود لبث حلقات البرنامج، أي مساء الأربعاء بعد نشرة الثامنة في حدود الساعة الثامنة والنصف (وعذرا على عدم دفع فاتورة هذا الإعلان الدعائي).
لقد استجبت لفكرة الطبيب لأنها عملية جدا، ولأنها سهلة التنفيذ، ولأن نتائجها ستكون بإذن الله إيجابية. ولقد بدأت فعلا في وضع خطة عملية لتنفيذ الفكرة على مستوى ثانوية لعيون التي درست بها، و يمكن أن يبدأ تنفيذ الفكرة بتنظيم حفل تخرج، وتقديم جوائز للمتفوقين في هذه الثانوية في نهاية هذا العام الدراسي، وذلك كخطوة أولى في سلسلة من الخطوات التي يمكن لمن درس (دون تشديد الراء) في هذه الثانوية أن يساهم بها في رد الجميل لتلك الثانوية التي تعلم فيها. وأتمنى أن تنفذ فكرة الطبيب على مستوى كل ثانويات الوطن، وعلى أمل أن تمتد مستقبلا لتشمل كل المدارس الابتدائية، وأتمنى أيضا أن تشهد ثانويات البلاد تنافسا شديدا في هذا المجال، وأعتقد إن حدث مثل ذلك التنافس بأن ثانوية لعيون ستكون من أقوى المتنافسين.
وهذه هي الفكرة التي قدمها الدكتور "عبد الله ولد بيان"، وقد حذفت منها فقرة لغرض الاختصار الذي لا أعتقد بأنه سيخل بمضمونها:
" عندما ما ينجح المواطن في بلدنا، و يصبح رجل علم أو رجل عمل فإنه غالبا ما يكتفي (أو على الأصح ينشغل) بمعالجة المشاكل التي يعاني منها محيطه الأسري، و يعمل على الرفع من مستواه المادي والمعرفي، حيث يجد في ذلك عادة شأنا يغنيه عن هموم "الآخرين" ، لذلك فالهدف من هذه الفكرة هو أن يُصحب ذلك بنوع من الأنشطة التطوعية ذات الطابع العام، وترسيخ الثقافة المتعلقة ب "مكافأة المجتمع" . و آخذ من ذلك مثال التواصل مع المدارس الابتدائية و الثانوية التي تعلم فيها الفرد، و التبرع لها، و لبرامجها التعليمية و الثقافية (والبحثية إن كان ذلك على مستوى الجامعات)، كما تفعل بعض الشعوب الأخرى، حيث يكون ذلك أشمل و أوسع أثرا من الاقتصار على المحيط الأسري و الاجتماعي الضيق (الذي هو في غاية الأهمية أيضا). وقد يُستغرب هذا التواصل المدرسي بداية من قبل الإدارات و الطلاب على حد سواء، و لكن مع تكرار ذلك يتعود الجميع عليه (بل و ينتظره من حين لآخر) حيث يجد الطالب فيه استشرافا و تواصلا مع "مستقبله"، و تجد فيه الإدارة والهيئة التدريسية دعما لها في مهمتها المتعددة الجوانب.
تصبحون وأنتم مصلحون أين ما كنتم...