لا تعد الاختبارات ولا الامتحانات التربوية غاية في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة بيداغوجية تساهم في اطّلاع المُدرّس وأسرة التلميذ والجهات التربوية الوصية على مدى تقدم المُتعلّم في استيعاب وإدراك المعلومات والمهارات المكتسبة من عملية التعلم، ومن يتابع عن كثب نتائج المنظومة التعليمة الموريتانية في مراحلها الأساسية والإعدادية ويرى باستمرار هذا الكم الهائل من عشرات آلاف التلاميذ الراسبين في امتحانات ختم الدروس الابتدائية والإعدادية والذين في غالب الأمر ينضمون إلى الأعداد الوافرة المتسربة سابقا من المدارس يدرك مدى الاستهتار الكبير بمستقبل هذه الفئة الناشئة والتي صارت مؤخرا تمثل الفئة الأولى في امتهان الجريمة وارتكاب الجنح وتعاطي الممنوعات، وهي نتيجة حتمية لهذا الإهدار التربوي الكبير المتمثل في التسريب القسري للأطفال الراسبين الذين ساهمت عوامل عديدة في رسوبهم منها انعدام الوعي الأسري والمجتمعي بحاجتهم للرعاية التربوية زيادة على ضعف وتهالك المنظومة التعليمية المنهارة بشكلها الحالي.
فالتعليم إذا كما تنص القوانين والأعراف الدولية حق من آكد الحقوق الإنسانية للأطفال دون الثامنة عشرة من العمر بل هو خدمة إجبارية يستحقها جيل الغد على دولته، ومن الإجحاف تحديد مستقبل هذا الطفل أو ذاك من خلال استظهار الإجابة على أسئلة تقليدية رتيبة أو قياس مدى قدرته على الفهم والاستيعاب خلال مساره التعليمي كله بتقويم عرضي في بضع ساعات، حيث أودع الله سبحانه وتعالى في هذا الطفل مهما كانت بلادته وضعفه خصوبة ذهنية متقدة تتجلى في فهم واستيعاب ما هو أصعب من المقررات الدراسية كإتقان لغة الأبوين مهما بلغ تعقيدها وتعلم الجلوس والحبو والوقوف ومختلف مهارات الحياة؛ وقد أثبتت النظريات التربوية الحديثة أن الأطفال يختلفون في تلقي واستيعاب المعلومة انطلاقا من أسلوب التعلم المتبع وليس بالإمكان أخذ صورة مفصلة للقدرات الذهنية للطفل من خلال تقويم أو امتحان عرضي محدد، ومع أن الامتحانات تكتسي أهمية بالغة في كشف الأخطاء إلا أن الهدف البيداغوجي أساسا منها هو تصحيح تلك الأخطاء والثغرات والمساعدة على تجاوزها نحو الصواب.
ورغم كل ذلك لا تزال امتحانات الإنتقال من مستوى تعليمي إلى آخر عندنا قائمة على مسابقات تجاوز يتم فيها استظهار معلومات متعددة يحدد القائمون على العملية التربوية من خلالها مستقبل الطفل ورسوبه إن هو لم يوفق في الإجابة على تلك الأسئلة العشوائية ظنا منهم أنها الطريقة الوحيدة لإبراز التفاوت الفطري بين التلاميذ، متجاهلين أن هذا الرسوب يفضي لا محالة للتسرب وبالتالي فهي مساهمة في إثبات انعدام أهلية التلميذ الراسب للتعلم زيادة على ما يسببه ذلك من آثار نفسية خطيرة وشعور بعقدة النقص لدى الطفل.. وهي أنماط رجعية في التعليم ولم يعد مطروحة في عالم اليوم نظرا للتطور البيداغوجي الذي شهدته المنظومة التربوية العالمية رغم تمسك بعض بلدان العالم الثالث بها ومنها بلدنا للأسف؛ فخطأ جسيم وغباء في عصر اليوم هو بقاء هذا الصنف من المسابقات التقليدية التي يعد الرسوب فيها لصيقا بالتسرب وهو شيء بات معتادا من خلال نسب التسرب المدرسي الكبيرة التي تزيد كل عام بالراسبين الذين يشكلون في أحسن الأحوال حوالي ثلثين من مجموع مترشحي المسابقات التعليمية في مراحل ما قبل التعليم الجامعي بدء بمسابقتي ختم الدروس الابتدائية والإعدادية وانتهاء بالثانوية العامة "الباكالوريا".
وانطلاقا من نسب التسرب المخيفة هذه والمنبئة بغد مظلم لا يمكننا إلا النداء بقوة والدعوة بصدق لإلغاء مسابقات ختم الدروس الابتدائية والإعدادية التي صارت للأسف تشكل عائقا أمام قاطرة المنظومة التعليم البطيئة أصلا بسبب ترسبات انعدام الوعي والهشاشة وغياب التعليم الإجباري للطفل، وكأن النظام التعليمي الوطني مهتم فقط بتحصيل العلامات على حساب التكوين الشخصي واكتساب المهارات، ويرى بعض المتخصصين في المجال أن الدول التي لا زالت تفرض مسابقات التجاوز تدفع أجيال غدها بشكل أو بآخر نحو التسرب، وبالتالي فنظامنا التربوي بشكله الحالي يبدو وكأنه يهدم نفسه بنفسه وهو يحاول التغطية على تقصير الدولة وعجزها عن توفير تعليم جيد ودفع المسؤولية عنها بذاك نحو الطفل الراسب وأسرته ومجتمعه.