خرج الشباب الموريتاني في السنوات الماضية من الأطر التنظيمية التقليدية، واحدث حراكا شبابيا أطلق عليه حراك شباب 25 فبراير، فماهي الظروف الداخلية التي جاء في ظلها هذا الحراك؟ وماهي الظروف الخارجية الملهمة له؟ وهل حقق نتائج لصالح التغيير ؟ ولماذا لم يستطع الشباب ولا المعارضة الديمقراطية تحقيق التغيير المنشود حتى الآن؟
كانت موريتانيا حينها في السنة الثانية من حكم محمد ولد عبد العزيز ـ المباشر ـ القادم اثر انقلاب عسكري على نظام سيد محمد ولد الشيخ عبد الله – سماه هو نفسه ردة فعل على إقالته وزملائه- وصراع سياسي محتدم مع قوى المعارضة الرافضة للأجندة الأحادية له، المشكلة حينها من الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية وحزب تكتل القوى الديمقراطية ، وهي الأزمة التي انتهت باتفاق دكار ، ورغم ان المعارضة لم تحصل من خلال الاتفاق على ما كانت تصبوا إليه من انتخابات نزيهة معتبرة ما حدث تزويرا وقدمت بعض الطعون عليها الا انها ظلت تطالب بتطبيق باقي بنود اتفاق دكار في ما يتعلق بمواصلة الحوار، في حين كان نظام محمد ولد عبد العزيز يعتبر ان دكار اصبح من الماضي وانه لا حوار بعد وصوله لهدفه المنشود ألا وهو كرسي الحكم ، وهو ما ادى الى تفاقم ظاهرة عدم الثقة والتكافئي بين المعارضة والنظام الذي باتت المعارضة تصفه بالعاجز عن تحقيق الاصلاح بل اكثر من ذالك تتهمه بتغييب مطالب الاصلاح وتشويهها والنيل من خصومه السياسيين وتصفيتهم، لكن ذلك لم يثن النظام عن متابعة سياسته الديماغوجية الشعبوية التي تتلاعب بمشاعر الفقراء من خلال شعارات محاربة الفساد و تصفية خصومه من رجال الأعمال بحجج الفساد، الا ان ذلك لم ينعكس على حياة المواطن حيث ارتفعت اسعار المواد الغذائية بنسب خيالية وصلت في بعض الاحيان الى اكثر من 70% وزيادة اسعار المحروقات بوتيرة متصاعدة لم تعرفها البلاد عبر تاريخها، هذا في ظل صعود طبقة من رجال الاعمال من مقربيه وحاشيته ، فبيعت لهم المناطق الحيوية في نواكشوط من ابلوكات الى الموسيقى العسكرية ، ومنحوا آلاف الكيلومترات المربعة عبر صفقات مشبوهة و تم تمكين العصابة المحيطة به من احتكار المواد الغذائية و ظهرت عدة شركات في مجالات مختلفة بسرعة قياسية تفوح منها رائحة السلطة و تم إقصاء العديد من كبار رجال الأعمال من اجل تعزيز احتكارات المقربين بما في ذلك الشركة الموريتانية للاستيراد و التصدير "سونيمكس" التي عمل ولد عبد العزيز بجد على تدميرها عبر شتى الحيل.
بعد انكشاف زيف الدعايات الشعبوية و الانحياز للفقراء حاول ولد عبد العزيز اللعب على العامل العرقي محاولا بذلك استقطاب بعض المناصرين بوصفه الحامي لفئات بعينها و تبين ذلك جليا في محاولات اثارة الفتنة العرقية عبر أحداث الجامعة و استفزاز شرائح بعينها مما أدى إلى ردات فعل هددت السلم الاجتماعي الهش أصلا. الظروف الخارجية ساهمت هي الأخرى في تأجيج الوضع عبر انتشار النموذج الثوري المنبثق عن الربيع العربي، فظهرت حالات انتحار متكررة ، مستلهمة نموذج البوعزيزي الذي أثار مخيلة الشباب الموريتاني ، و بدأ الاحتقان المتراكم عبر عقود من الأحكام العسكرية يخرج الى السطح و تنادى الشباب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي " الفيس بوك" فخرجت الآلاف في الخامس والعشرين من فبراير سنة 2011 لتقول بكلمة واحدة " ياعزيز ياغزواني خلوا عنكم موريتاني" ، يريدون الحرية بدل الاستبداد والعدالة محل الظلم والمساواة عوض الغبن، لكن النظام كان يريد اسكات اصواتهم بأي ثمن ،فأغار عليهم في جنح الظلام ليفك اعتصامهم السلمي ،و توالت عليهم انواع التنكيل و الاعتقال و اطلاق قطعان اللصوص و المجرمين للتعرض لمظاهراتهم السلمية و حاول شق صفوفهم من خلال شراء بعض ضعاف الأنفس من اللاهثين خلف الأموال و الوظائف. رغم فتور الحراك الملحوظ إلا ان الشباب الموريتاني حقق امور أساسية من الحراك وهي: - أن عدم القدرة على النجاح ليست مبررا لعدم صدق المطالب ، فقد تحقق المطالب ولو بعد حين.
- الثقة لدى الشباب الموريتاني في نفسه ، و إدراك ان الانقلابات العسكرية ليست حلا لمصائبه المتراكمة .
- تشجيع النقابات واصحاب المظالم على الجهر بأصواتهم من اجل تحقيق عرائضهم المطلبية حيث أصبحت الاحتجاجات جزأ من الحياة اليومية.
- اشراك للمنظمات الحقوقية المدافعة عن المعتقلين من الشباب والصحفيين الذين نالهم نصيبهم من بطش النظام.
- إجبار النظام على محاولات مغازلة الشباب بعد ادراكه لخطرهم على نظامه و هو ما انعكس في محاولته استقطابهم من خلال خلق عدة احزاب شبابية.
رغم ما حقق الشباب من نتائج مرضية على مستوى تغيير العقليات فان الشارع الموريتاني ظل منقسما حول إمكانية التغيير ، فبين من يرى أن لا سبيل نحو التغيير وكأن الأمور متوقفة عند نقطة صفرية بين الرغبة في التغير لدى الشباب ونظام مستعصي على ذلك، وبين من يرى أن التغيير ممكن ، خاصة أن النظام وصل إلى درجة من الضعف والإفلاس جعلته غير قادر على الاستمرار.
لقد كان دخول منسقية المعارضة الديمقراطية في معترك التغيير من خلال رفع شعار " رحيل النظام" خطوة جريئة ، رأى فيها البعض قفزة غير مضمونة النتائج و مطلبا متسرعا و غير عقلاني بينما رأى البعض الآخر انها الحل الوحيد لإنهاء نظام عسكري استنفذ نفسه في فترة وجيزة. رغم كل الانتقادات الا ان المعارضة من خلال رفع شعار رحيل النظام حققت عدة نقاط لصالحها:
- أجبرت النظام على الدخول في حوار مع بعض القوى المعارضة و تقديم بعض التنازلات رغم محدوديتها.
- إجبار بعض القوى المرتبطة به في صفوف المعارضة من كشف اوراقها ، و الانحياز للنظام بشكل واضح و مكشوف.
- التراجع عن أجندته في الحرب بالوكالة تحت الضغط الشعبي بعد ان قطع مراحل بعيدة في التورط في اعمال عسكرية لصالح دول أجنبية.
- اضطراره للجوء للأساليب قديمة مثل التعبئة الشعبية بموارد الدولة واكراه الموظفين كما حدث مع استقباله خلال عودته من رحلته العلاجية مما يشي بدرجة تراجع شعبيته.
الا ان المعارضة تواجه انتقادات شديدة بسبب تبنيها لاستراتيجية التغيير الفائقة التسييس والتي ترتكز على ادانة النظام من خلال كشف عمليات الفساد داخل مؤسسات الدولة بل ونهب موارد الدولة الطبيعية، ولكن الادانة في حد ذاتها لا تحقق مقتضيات ومتطلبات الرحيل الذي ترفعه المعارضة، لكن كيف ستتجاوز منسقية المعارضة الإدانة الى إستراتيجية الرحيل؟ ان فرض الرحيل لا يمكن ان يكون من طرف واحد بل تحتاج فيه المعارضة إلى تحرك جميع أصحاب المظالم سواء من العمال او الطلاب او العاطلين عن العمل وسكان الصفيح ، وغيرهم ممن يطمح بواقع افضل والحركات الشبابية التي خرجت من قبل لينصهر الجميع من اجل تحقيق الديمقراطية والعيش الكريم ، حينها لن يكون أمام النظام إلا أن يرحل، فهل ستنجح القوى السياسية في توحيد المتضررين من الأنظمة العسكرية؟ و هل سيدرك الشعب الموريتاني أن المطالب الجزئية و الفئوية لا يمكن ان تتحقق إلا بتضافر الجهود و توحيد الصفوف لتغيير شامل ؟!