كما أن السلطات تتحمل دور تأمين الناس في أموالهم وأنفسهم هي كذالك مسؤولة عن تأمينهم في كل ما يمس من سمعتهم .
لقد أصبح للأمن اليوم مفهوم أوسع وأشمل مما كان له ، فمع اتساع رقعة الشبكة وتزايد روادها ، فقد أضحت وللأسف الشديد وفي ظل التسيب الذي نشهده اليوم وسيلة سهلة الإستخدام لدى من لا يخشون لومة لائم ، ولا تأنيب ضمير في سعيهم لبناء مجدهم ، وتحصيل لقمة عيشهم ، وصياغة مسارهم المهني بالولوغ في الأعراض تنفيسا عن غل وحسد وحقد .
وأنا على اليقين أن أي كريم على وجه هذه البسيطة يرى أن اللص الذي يتسور ليأخذ درهما أو دينارا هو بمراحل دون من ينسج الألفاظ لينال من السمعة ويعرض بالتاريخ ويشوه سيرا حسنة.
فكيف تحارب الداخلية الأول وتترك الثاني حرا طليقا .
وكان من المنتظر من الداخلية أن تعامل المجرم بالمحتوى الرقمي كغيره من المجرمين ، لكني لما رأيت غياب سلطاتنا عن المسؤولية ، وعدم انتفاعهم من الآراء ، فإنني آمل أن يكون مجتمعنا في مستوى من الوعي ليحارب الإساءة والتجريح والظلم من خلال المحتوى الرقمي.
لقد حان الوقت لنسجل في وعينا المشترك ، أن المتعدي والمسيء من خلال محتوى رقمي هو مجرم بكل معنى الكلمة ، هو مرتكب لجناية مكتملة الأركان ، وحري بالسلطات أن تعاقبه .
وإذا لم تعي السلطات واقع العالم الرقمي الآن ، فلا أقل من وعي اجتماعي له .
أدعو إلى حلف فضول يقف ضد الإساءة إلى الأشخاص والمجتمعات والقيادات ، وتنضوي تحت هذا الحلف كل التكتلات والقرى والجهات ، فالكل مستهجن ومتقزز من التهجم الطائش ، ولا أعتقد أن في الدنيا سليم عقل وصدر يسر بتعريض بأخيه .
يجب أن يظهر المجرم بالمحتوى الرقمي ، منبوذا في المجتمع مطرودا ، لا يقبل منه صرف ولا عدل .
يجب أن نعاقب كمجتمع ، ولا أعني بالعقاب الاجتماعي أي عقاب جسدي ، فللسلطات الحق الحصري في التوقيف والسجن .
ولكننا كمجتمع يجب أن نظهر لمن تجارتها أعراض الناس أن لا عرض له ، لا نجامله ، ولا نصافحه ولا نعامله ، ولا يرى فينا إلا ما يجزم له أننا نشجب وندين فعله الشنيع .
رحم الله تعالى أحد مشائخنا ، بلغه أن أحدهم تحدث عن شيخه بما لا يليق ، فكان يوما هذا المسيء في ضيافة هذا المريد ، فقدم له الشراب في أثمن قدح ، ثم رمى القدح أمامه بعيدا .
بهذا تصل الرسالة ، وتصل مؤلمة جدا .
نحن في حاجة إلى تعاضد وتكاتف ، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
من خطوات الوعي المجتمعي في محاربة الجريمة الرقمية أن نمتنع من التفاعل أو التعليق أو المتابعة مع أي محتوى مسيء أو سلبي ، بل وأن نعرف من تفاعل معه ، ليكون في لائحة عقابنا .
بوصفنا كتلة واحدة يمكننا مجابهة الجريمة الرقمية وبخاصة التي يكون فيها جرح للخواطر وتعدي على السمعة .
وحتى أن وعينا كمجتمع وإدراكنا لخطورة المحتوى الرقمي وآثاره يمكن أن توقظ السلطات من شللها ومن سباتها العميق .
أتمنى أن يخرج كل قارئ لهذا المقال بإدراك لمدى أهمية أن يكون لنا جهاز أمني ينتمي لجيلنا اليوم ، وليس جهاز أمن من العصر الحجري ، جهاز يتابع المحتوى الرقمي ويصنفه ، ويتحرك في الوقت لتعديل المسار، وإصلاح الخلل .
نحن في حاجة إلى كيان يقوم بمهمة الحسبة الرقمية ، ينوب عن المجتمع في حفظ قيمه وأخلاقه وأعراضه ، وعن اللـه تعالى في إقامة شرعه وإصلاح وتقويم عباده .
لكن لأننا في زمن لا أحد فيه يأخذ بزمام الأمر ويحمل نفسه ، فلا بد من تحميل المسؤولية لجهات بعينها ، ولا بد بعد ذالك من متابعة لأداء هذه المسؤولية.
وفي الإنتظار لا بد من وعي اجتماعي عام ينظر إلى كاتب المحتوى الرقمي ومؤلفه ، بأنه شخص يستحق الحساب والعقاب على أي تجريح أو سب أو قذف ورد فيما كتبه .
وأن ندرك أن المحتوى الرقمي مهما بلغ من ركاكة المعنى وهشاشة المبنى فيظل له كبير التأثير ، ذالك أن الشبكة بأيدي العامة والسوقة من الناس كما هي بأيدي المثقفين وذوي الرأي ..
وأن الكتابة الرقمية أشد وقعا من الكتابة الورقية ، ذالك أن قارئ الكتب في الأغلب مثقف ، وهي تستهدف فئة قليلة ، ولكن الكتابة الرقمية بدأت تصنع جمهورا ضخما ، تعلمه القراءة والكتابة ، والأخطر في المحتوى الرقمي أن من يقرأ للروبيضات ويتأثر بهم أكثر بكثير من الذين يستطيعون السباحة في محتوى المثقفين .
وهذا وجه من أوجه الخطورة التي تستدعي من السلطات التحرك .
ولا أعني بالتحرك ما نسمعه أحيانا من اعتقال للمدونين على خلفية تعبيرهم عن رأيهم في النظام .
فالأنظمة في دول العالم الثالث لا ينقصها من يحميها وينتصر لها ، ولكن القيم والمثل والمشترك العام لا بد ممن يقف معها .