الجدل حول اللغة الرسمية ومكانتها لا يكاد يتوقف في بلدنا متعدد الأعراق (عربا وزنوجا وبربرا)، ويتخذ هذا الجدل دائما شكل مفاضلة غريبة بين اللغتين العربية والفرنسية، وأيهما أولى بأن تكون لغة "تواصل"، وإدارة، وتوحيد.
ثم يشفع ذلك الجدل ب"مقبلات" لفظية تتناول مسألة "اللغات الوطنية أو الشعبية"، وأهمية تعليمها وتعلمها، وكتابتها وتدريسها و"دسترتها".. أما حين نحاول معرفة المقصود باللغات الوطنية؛ فنجدها ثلاث لغات هي: البولارية والسنونكية والولفية.. وهي اللغات الدارجة لثلاث إثنيات أو شرائح من مجتمعنا المحفوظة وحدته بإذن الله..
لكن أين هي لغات باقي مكونات شعبنا؟ أين لغات المجموعتين العربية والبربرية؟ لا أحد يتكلم كثيرا عن هذه الشريحة الأخيرة؛ أما الشريحة العربية فيقولون إن لغتها هي اللغة العربية المتنافسة على السيادة مع اللغة الفرنسية.. وهو قول خاطئ وغريب معا..
خاطئ لأن اللغة العربية ليست لغة المجموعة العربية كما يزعمون، وغريب لأن اللغة الفرنسية ليست لغة أحد من سكان هذه الأرض حتى تثير كل هذا الجدل واللقط.. بل كل هذا السخف السخيف!!..
ما قد يثير الاستغراب في هذا الكلام هو القول إن العربية ليست لغة للعرب الموريتانيين، وهو استغراب مفهوم، وسيكون الاستغراب أشد عندما نقول إن العربية ليست لغة لأي من شعوب الأمة العربية كلها!
ومع ذلك فإن تلك هي قناعتنا الراسخة؛ في هذا الزمن على الأقل؛ ومن أراد أن يتثبت من صحة ذلك فليتلو قصيدة أو يقرأ مقالا على أي مواطن عربي أمي في أي جزء من الوطن العربي الكبير ولينظر بعد ذلك هل فهم ذلك المواطن شيئا مما أسمعه؟
لن يفهم إلا أقل القليل؛ وسيسألك بلغة شعبه (الدارجة العربية المستخدمة في بلده) عن معنى ما تلوت أو قرأت عليه؟؟!؛ فإن كان من عرب موريتانيا مثلا؛ فسيطلب منك أن تشرح له الأمر ب"الحسانية"؛ فهي لغته التي يفهمها جميع أبناء جلدته ويتخاطبون بها؛ وهي قطعا ليست "اللغة العربية"؛ حتى وإن كانت دارجة أو لهجة عربية!!.
إن في الوطن العربي من الدارجات واللهجات عدد ما فيه من دول و شعوب أو يزيد؛ وليس فيه شعب واحد ولا قبيلة واحدة؛ ولا حتى أسرة أو فرد واحد يتكلم اللغة العربية الفصحى ويتخذها لغة تخاطب وتفاهم وتواصل يومي...
فما السبب في ذلك؟
سيقول كثيرون: إنه الاستعمار الذي حارب اللغة العربية وفرض لغاته على شعوبنا، بعد أن قهرنا قهرا، ثم مسخنا مسخا، ونسخنا "نسخا"؛ حتى انقلبنا ضد لغتنا وقيمنا وخصوصياتنا الحضارية؛ فانبهرنا بحضارة وقيم المسيطرين؛ فضاعت لغتنا وتهات عقولنا.. وإنه لا خلاصنا لنا من هذا الواقع غير العودة للغتنا تعلما وتعليما، حتى نعيدها لغة تواصل وتخاطب وتعامل في البيت والشارع والإدارة والمدرسة، دون عقد أو شعور بالدونية تجاه الآخرين..
وهو قول صحيح.. لكن ليس على إطلاقه في ما نعتقد..
ذلك أننا نرى (والله أعلم) أن ثمة سببا إلهيا خالصا لتخلي العرب عن لغتهم والاستعاضة عنها بلهجاتهم الشعبية العائدة في أصولها للغة الأم.. وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه؛ فكان أمرا مقضيا..
لقد أنزل الله تعالى آخر كتبه على آخر أنبيائه "بلسان عربي مبين"، أي بلغة العرب؛ لكن هذا الكتاب جاء موجها للناس أجمعين: عربا وعجبا، وكذلك كان النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام رسولا إلى الناس أجمعين: عربا وعجما؛ فكيف نوفق بين إنسانية الإسلام وعالميته، وبين لغة القرآن الخاصة بأمة بعينها وقوم دون غيرهم: العرب ولغتهم (اللغة العربية)؟
إن حكمة الله وإرادته الماضية لم تترك لأي من البشر مسئولية الاطلاع بتلك المسئولية الجسيمة؛ وتولى الله بإرادته وحكمته حل الإشكال بما يشاء وكيف يشاء، وهو على ما يشاء قدير..
قال تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"..
وكما نسخ الله، وأنسى المؤمنين سورا وآيات أنزلت عليهم؛ دون نسخ أحكام بعضها؛ فقد هيأ العرب تدريجيا للتخلي عن لغتهم وإبداع دارجات ولهجات شعبية عوضا عنها؛ صارت هي لغات التخاطب والتواصل المتداولة والمفهومة لدى كل العرب: العالم منهم والجاهل، المثقف منهم والأمي، بينما لم تعد معرفة اللغة العربية التي نزل القرآن بلسانها غير ذي العوج متاحة إلا لمن درسها وتعلمها عربيا كان أو أعجميا...
لماذا؟
نقول (والله أعلم) لينفرد القرآن الكريم بلغته دون كل الشعوب والأمم والقوميات، وليتعبد الله المؤمنين من خلقه بتعلم لغة كتابه وتعليمها وحفظها والحفاظ عليها؛ بعد أن قضت حكمته بتوفير الظروف الموضوعية لتساوي الناس (عربا وعجما) في "الجهل الفطري" باللغة العربية، لينطلقوا جميعا من مستوى واحد يتنافسون منه على تعلم لغة دينهم وحفظها والتقرب إلى الله بها...
فهل يتأمل المؤمنون عامة ومسلمو موريتانيا خاصة؛ هذه اللطائف العجيبة؛ فيكفوا عن ذلك الجدل الشيطاني السخيف حول اللغة الرسمية واللغات الوطنية، وينكبوا على تعليم وتعلم لغة كتاب ربهم، وبالتبعية لغتهم بصفتهم مؤمنين..
"وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"..
فيا أيها المؤمنون؛ إن اللغة العربية لم تعد لغة أحد من أعراقكم أو واحدة من قومياتكم؛ منذ أن اختارها الله لغة لكتابه الهادي إلى سواء السبيل.. فهل فيكم منتصر للغة لكتاب الله القائل جل شأنه: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى".. فكيف تُقبلون على ذكر الله وقد جهلتم لغته وأعرضتم عنها إعراض المستقبحين؟!..
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد