يبدو أن من بيننا من يسعى حثيثا إلى تدمير الوطن ومسخ وتشويه رموزه وقيمه ومنظوماته القانونية والشرعية والأخلاقية، ويتخذ من الإفك ملهاة سيئة الحبك والإخراج!
ففي الوقت الذي تصر فيه إدارة الأمن التي تسيّر ملف اتهام وحبس الرئيس محمد ولد عبد العزيز بالباطل،على منع دفاعه من الاتصال به، وتفرض عليهم شروطا تعجيزية غاية في الشطط والتعسف، وتخضع زوجته وبناته لمختلف أنواع الإهانة والإذلال؛ منتهكة بذلك جميع القوانين الوطنية والدولية؛ نرى من يطلقون حملة تهريج وتضليل عبر بعض المواقع بغية ترويج وتثمين وتلميع إذن قضائي عادي صدر بعد لأي ومماطلة دامت نحو ثلاثة أسابيع، يسمح للسيدة الأولى تكبر بنت أحمد بزيارة زوجها المحبوس ظلما وعدوانا!
ومن دواعي هذه الملهاة الساذجة:
- محاولة التغطية على ما يجري في هذا الملف المختلق من خرق سافر للقوانين والأعراف الوطنية والدولية؛ وخاصة انتهاك حقوق الدفاع المقدسة، كمنع المحامين من الاتصال بموكلهم، ومنع الرئيس المعتقل من الاتصال بدفاعه وأهله وبالعالم الخارجي؛ لدرجة منع إدخال عددين من "جون أفريك" إليه!
- التغطية على ما تقوم به شرطة الحبس الانفرادي الذي يخضع له الرئيس محمد ولد عبد العزيز من معاملة سيئة وإهانة وتعذيب معنوي له ولأفراد عائلته؛ لحد أن زوجته (صاحبة الترخيص المنوه عنه) وإحدى بناته قررتا التوقف عن زيارته بسبب ما تلقيانه من إساءة وسوء معاملة الشرطة!
- إظهار القضاء بمظهر الحَكَم وسيد الموقف الرحيم الذي يرخص للزوجة بزيارة زوجها السجين! بينما الواقع هو العكس؛ فإدارة الأمن هي الحَكَم في هذا الملف، وهي سيدة الموقف! ولا أدل على ذلك من تلفيقه أصلا، واتخاذ جميع الإجراءات فيه وتسريبها عن طريق الجواسيس، قبل أن يجيزها القضاء لاحقا، ومن مماطلة القضاء لأسرة الرئيس المعتقل ومنعها من زيارته لأزيد من أسبوعين بحجج واهية ومخالفة للقانون، ورفضها السماح بزيارة الأقارب، خرقا لصريح المادة 103 من قانون المرافعات الجنائية، والمرسوم رقم 70/153 المنظم للسجون، وتلاعب وتحكم الشرطة التي تحتل المعتقل وتفرض إرادتها على إدارة السجون التي هو تابع لها، المتمثل في تعطيل ما ينص عليه القانون وما يأذن به القاضي بعد لأي من حقوق منصوصة في القوانين والأعراف، لا يشكل منحها منة ولا فضلا من أحد.
- وثم غرض رابع لا يقل أهمية لدى أصحاب النفوس المريضة والأمزجة الفاسدة؛ وهو الشماتة والتشفي والتلذذ بإهانة العظماء! لكن.. من أين لهؤلاء أن يدركوا - ولن يدركوا - أن طلب العلى والدفاع عن الحق والوطن منزلة من شرف النفس لا يتصدى لنيلها إلا ذوو الهمم العالية لأنها غالية المهر، وأن "خلاخيل الرجال قيودها" كما قال الشاعر، وأن لاَّ غرو ولا عيب أن ينال من الشريف من هم دونه؟ كما قال أبو الأسود الدؤلي:
ولا غرو للأشراف إن ظفرت بهم ** ذئاب الأعادي من فصيح وأعجم
فضربة وحشي سقت حمزة الردى ** وحتف علي من حسام ابن ملجم.
وإذا كانت حرم الرئيس محمد ولد عبد العزيز وابنته قد اضطرتا إلى عدم زيارة الزوج والأب والرئيس في سجنه، بسبب ما تلقيانه من مضايقات وإهانة قصدت من ورائها إهانته هو، فإن عزاءهما وعزاءه أن الشرطة التي تقوم بإهانتهم لا تأتمر بأمر أي من الأنظمة الفاسدة التي أطاح بها، ولا بأمر المعارضة التي ناصبته العداء طيلة حكمه فبزها لحد التلاشي؛ بل تأتمر بأمر أغلبيته وحزبه ومن كانوا يمحضونه وأسرته آيات التبجيل والاحترام، وأن الإهانة تمت بعد أن خرج من السلطة وتخلى عنها طواعية رغم إلحاحهم عليه بالبقاء، وسلمها في عرس ديمقراطي مهيب وبهيج إلى أقرب الناس إليه! ولكنها المصالح! أولم يقل الوليد بن عقبة لسعد ابن أبي وقاص وقد عُزل سعد ووُلِّي الوليدُ مكانه الكوفة، فسأله سعد: "ألسنت بعدنا أم حمقنا بعدك؟" فرد الوليد: "لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون"!
... ومن عادة البدو أن تُغِير الأقوام بعضها على بعض، وعلى المدينة، فتنهب وتسلب وتقتل وتدمر (10 يوليو مثلا) وهكذا دواليك، حتى تنتصر وترسخ روح المدنية والدولة في حياة الأمة! والله غالب على أمره:
وكلُّ معـدود إلى أن ينفـدا ** وغايةُ الأقوام مَهْواةُ الرَّدى
والدهرُ ما أصلح يوما أفسدا ** وعاد مُبْلِيه، على ما جدَّدَا
ولا أرى الإنسان متروكا سدى ** ويجعل الله وإن طال المدى
لكل شيء منتهى وأمدا.
وتذكرني ملهاة مخابرات القوم بفقرة من ثلاثية أحلام مستغانمي تحكي شيئا من مأساة قوم آخرين جاء فيها: "ذكرني كلامه بما سمعته يوما عن والدة أحمد بن بلة التي، رغم ما كانت عليه من ضعف بنية وقصر قامة، أذهلت الفرنسيين بشجاعتها؛ فعندما اعتقلوا ابنها وساقوها إليه قصد إحباط معنوياته وتعذيبه برؤيتها، فاجأتهم بأن لم تقل له وهي تراه مكبلا سوى "الطير الحر ما يَتْخَبَّطْشْ" وأدركوا لاحقا أنها بذلك المثل الشعبي كانت تحثه على أن يكون نسرا كاسرا لا عصفورا ينتفض خوفا في يد العدو.
لكن الحياة كانت تعد لها امتحانا آخر. فبعد استقلال الجزائر خرج بن بلة زعيما من سجن العدو ليجد معتقلات وطنه مشرعة في انتظاره سبع عشرة سنة أخرى. لم يسمح لتلك الأم العجوز برؤيته إلا بعد سنتين من اعتقاله. يومها - ولإهانة ابنها- تمت تعريتها وتفتيشها، وتركت ترتجف بردا على مرأى من كلاب حراسة الثورة. لم تصمد كهولتها أمام مجرى هواء التاريخ، ماتت بعد فترة وجيزة من جراء نزلة القهر بردا على مرمى العيون اللا مبالية لوطن له القدرة على مسخ النسور الكواسر إلى عصافير مذعورة". (عابر سرير ص 194).
وكم كانت والدة عزيز - رحمها الله- حازمة وشجاعة ومحظوظة حين فارقت الدنيا قبل حبسه بأيام حتى لا تكون وسيلة تعذيب وإهانة لابنها البطل!
... ورغم ذلك كله فلم يمسخ بن بلله؛ بل ظل رمز ثورة الجزائر المجيدة التي غيرت التاريخ والجغرافيا، ورمز ثورة وكرامة وعزة وشموخ شعوب العالم السائرة في طريق الحرية والانعتاق والتمدن.. ولن يمسخ أو يمحى أبدا عزيز!