تعد الصين الشريك التجاري الأول لحوالي 140 دولة حول العالم، وقد تطور حجم التبادل التجاري بينها وموريتانيا من حوالي 30 مليون دولار سنة 2000 إلى حوالي 2 مليار دولار سنة 2020، محتلة بذلك مرتبة أكبر شريك تجاري لموريتانيا مع فائض في الميزان التجاري لصالح الأخيرة بحوالي 488 مليون دولار خلال السنة المنصرمة، وتصدر موريتانيا إلى الصين المواد الخام المعدنية، وكذلك الأسماك، ومنذعام 2009 أصبحت الصين أكبر مستورد لخام الحديد الموريتاني، إذ تستحوذ على حوالي 70% من إجمالي صادرات هذه المادة التي تعد العمود الفقري للاقتصاد الموريتاني، هذا بالإضافة إلى إجمالي صادرات النحاس، وحوالي 25% من صادرات قطاع الصيد الذي تعتبر أكبر المستثمرين الأجانب فيه.
هذه المعطيات وغيرها تعني أن الصين تولي أهمية متزايدة لموريتانيا كمصدرأساسي من مصادر تأمين المواد الأولية خاصة خام الحديد، الذي تسعى جاهدة إلى كسر هيمنة أستراليا عليه عالميا؛ ليس هذا فقط، بل إن الموقع الاستراتيجي لموريتانيا، وكونها تقع على مفترق طرق بين إفريقيا والعالم العربي، وقرب شواطئها من أوروبا وآمريكا يؤهلها أن تلعب دورا محوريا في مبادرة الحزام والطريق، بل هناك من القادة العسكريين الأمركيين من تحدث علنا لقناة تيوانية عن أن الموقع الجغرافي المميز لموريتانيا قد يلعب دورا هاما في استراتيجية تطويق أمريكاعن بعد، وربما هذا أحد الأسباب الرئيسية وراء كون الرئيس الحالي أول رئيس موريتاني يدخل مقر حلف الشمال الأطلسي " الناتو" في ظل تزايد اهتمامات الأخير بمنطقة الساحل ليس فقط من أجل أمن أوروبا بل وأمريكا أيضا، وهذا ما جعل مقاربته في الساحل، ولما بعد الساحل تلعب فيها الشراكة مع موريتانيا دوراهاما.
و ضمن هذا المنظور الاستراتيجي الواسع تأتي أهمية موريتانيا للصين أيضا، الصين التي تنظر إلى موريتانيا على أنها لاعب مهم في منطقة شمال وغرب إفريقيا؛ وهو ما عبرعنه السفير الصيني الجديد لدى موريتانيا في مقاله تحت عنوان " يداً بيد لدفع العلاقات الصينية الموريتانية نحو مستقبل مشرق"، حيث كتب أن الصين "تولي أهمية كبيرة لمكانة موريتانيا الفريدة في إفريقيا والعالم العربي، وتعتبرها شريكا إقليميا أساسيا، وتدعم لعبها لدور فعال في المنطقة". فمفهوم الأمن القومي الصيني في عهد ماو تسي تونج يختلف جذريا عن مفهومه بعد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني سنة 2012، حيث تمت الدعوة لأول مرة في تاريخ الصين الحديث (منذ 1840 ) إلى بناء قوة بحرية عالمية صينية.
صحيح أن موريتانيا دولة نامية وضعيفة اقتصاديا على الصعيد الإقليمي والعالمي، لكنها في أدبيات الدبلوماسية الصينية مصنفة من بين الدول الصديقة التي يعتمد عليها، فموريتانيا من الدول التي تسلقت أسوار سور الصين العظيم، وأقامت علاقات دبلوماسية معها قبل فتح أبوابه على مصراعيِها أمام الدولِ المتحالفة مع المعسكرِ الغربي سنة 1972 ، كما أنها أيضا من الدول الثابتة المواقف تجاه القضايا الجوهرية للصين (الصين الواحدة و شينجيانغ، وهونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي...).
لكن المتتبع لتطورات العلاقات بين البلدين التي توصف بأنها نموذجا لعلاقات الصداقة العربية الصينية، والإفريقية الصينية، سيجد أن هذه العلاقات دخلت منعطفا جديدا منذ سنة 2016 ، حيث بدأت التحولات في استراتيجية الغرب بقيادة أمريكا تجاه الصين تلقي بظلالها على المنطقة، واليوم باتت موريتانيا تصنف بأنها البلد الوحيد الحاضر الغائب في مشروع القرن مبادرة "الحزام و الطريق"، التي وقعت عليها أكثر من 170 دولة حول العالم، كما أنها البلد الوحيد في شبه المنطقة الذي لم ينضم ويصبح عضوا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والذي بلغ إجمالي عدد أعضائه أكثر من 100 عضو، بحجم سكاني يقدر بحوالي 80 %من إجمالي سكان العالم، وحجم اقتصاد يمثل 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، هذا بالإضافة إلى أن موريتانيا باتت تقاطع دون مبرر دبلماسي أو اقتصادي أو تجاري غالبية المؤتمرات والمعارض الدولية المهمة في الصين، على سبيل المثال لا للحصر المنتدى الدولي لمبادرة الحزام والطريق، ومعرض الصين الدولي للاستيراد، حتى الوكالة الصينية للتعاون الإنمائي الدولي (CIDCA) لم تسلم من المقاطعة الغير مبررة، فرغم لقاءات وزارة الاقتصاد الموريتانية شبه اليومية مع الوكالة الفرنسية للتنمية، ورغم تهافت دول الجوار بعد انتشار الوباء على الاجتماعات مع الوكالة الصينية عبر تقنية الفيديو كونفرانس لمناقشة إشكالية الديون والمشاريع التنموية الصينية، ورغم كون الصين من أكبر الدائنين والممولين لموريتانيا لم يسجل التاريخ حتى الآن أي لقاء أو اجتماع مع الوكالة الصينية منذ تأسيسها 2018، بل إن المقاطعة الصينية وصلت إلى الزيارات الرئاسية، وإن كان لها ما يبررها بسبب تفشي الوباء عالميا، حيث زار الرئيس الموريتاني منذ انتخابه أغسطس 2019 كل الدول الدائمة العضوية التي تتمتع بحق النقض الفيتو( أمريكا فرنسا بريطانيا روسيا) ما عدا الصين، وهي سابقة في التاريخ العلاقات بين البلدين خاصة أن موريتانيا لعبت دورا بارزا في استعادة الصين الجديدة لعضويتها في الأمم المتحدة اثناء رئاستها لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1971 .
إن الفتور أو الفجوة في العلاقات بين البلدين باتت تحرم موريتانيا الكثير من التمويلات التي يدعمها رصيدها الدبلوماسي ومواقفها السياسية الثابة الداعمة لقضايا الصين الجوهرية، والأخطر من ذلك أنها جعلت موريتانيا غير قادرة على التكيف مع المتطلبات المتجددة للتمويل الصيني الذي ظل إلى وقت قريب المساهم الأكبر في تنفيذ المشاريع التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، وخير دليل على ذلك المشاريع الصينية المعلقة بما فيها تلك التي صادق البرلمان الموريتاني عليها، ويعتبر إنجازها ضمن برنامج تعهداتي الرئاسي، وإذا كان الغرب بقيادة إمريكا يعد الشريك الأمني والسياسي الأول لموريتانيا التي تتمتع بموقع جغرافي ممتاز يجعلها تقع في صلب الاهتمام الأمني الأمريكي في المنطقة، نتيجة لما يمكن لها أن توفره لواشنطن كأن تكون منصة مراقبة على البوابة الأطلسية، وقاعدة لوجستية متقدمة، فإن الصين تعد الشريك التجاري الأول لموريتانيا، وتدعم بقوة أن تصبح موريتانيا قوة متوسطة فاعلة وحاسمة في معادلة التنافس الإقليمي بين القوى المتعددة على منطقة حساسة (شمال وغرب إفريقيا)، وهذا ما سيرفع من قيمة موريتانيا الحقيقية في عالم ما بعد كورونا التي تكمن في موقعها الجغرافي.