في ضحى الواحد و الثلاثين من يوليو ٢٠٢١ أخذت هاتفي و بدأت أتصفح موجه الأزرق، و كلي استعداد للغوص في لجيه الزاخر بالسياسة .. أبحث عن خبر صادق أو معلومة مفيدة أو مقابلة هادفة، لتسوق إلي الأقمار مقابلة تغري كل متتبع للشأن العام .
أثبت الهاتف جيدا و بدأت أركز في الصورة أولا ،
بدا مكان المقابلة أصيلا و نبيلا يشي بهدوء الزاهد المتصوف المترفع عن اللذات و المكتفي من الحياة بالفتات .
و قد طالت ظلال ذلك الهدوء كل أرجاء البلاد، و كل مناحي الحياة منذ سنتين .
هدوء سياسي أدى إلى الموت الرحيم للمعارضة.
هدوء اقتصادي تحول إلى ركود و غلاء معيشة .
و هدوء اجتماعي زاد نسبة العنوسة ارتفاعا .
تابعت المقابلة بإنصات لا يكسره حس ولا همس .
بدأ الصحفي بأريحيته المعهودة و احترافيته المشهودة،
فجاء سؤاله الأول كالضربة القاضية من محترف خبر نزال القادة.
لقد أفقد الرئيس توازنه .. جعله السؤال يرتبك .. يتلعثم .. يمزج الدارجة بالفصحى ..
نعم .. بقي الكثير على قارعة الطريق سيدي الرئيس ..!
أو إن شئتم فقل إن قطار التنمية لم ينطلق بعد .. و الطريق طويل و الوقت يمر بسرعة الأحداث .
لقد أقر السيد الرئيس بوجود الثروات المعدنية، و أقر بوجود الفقر، و لكنه لم يتمكن من إقناع أغلب أو ربما بعض مستمعيه من مواطنيه بأسباب المفارقة ؛ ذلك أنه لم يتوصل بعد -مثل سابقيه- إلى حل هذه المعادلة البسيطة .
سنتان تمران طويلا .. الشيب و الولدان ينتظرون على قارعة الطريق في طابور الحياة الطويل .. في هذه الصحراء المقفرة من أي أمل، و المفتقرة لأي دليل، ينتظرون قطار التنمية منذ عقود ..!
سنتان تمضيان و لا شيء تغير .. حيث ؛ لا مصانع وجدت و لا مزارع أنبتت و لا بحار جادت و لا أنعام أضرعت ..!
سنتان تمران على انتخاب السيد الرئيس فماذا طرأ ..تغير ؟
ماذا حدث ؟
لقد وعد بالكثير
فأين الطرق المعبدة و المستشفيات المجهزة و المدارس المهيأة و السدود العظيمة و أين الماء ..؟
الماء عصب الحياة.
و للعلم فإن ثالث أكبر مدن البلاد (كيفة) يشرب معظم سكانها مياها مالحة تجلب عبر الصهاريج و بواسطة عربات تجرها الحمر .
سنتان من الحكم و مايزال ترتيب البلاد في التعليم ١٣٤ و في الصحة ١٥٧
سنتان خاليتان من الإنجاز تقريبا .. مليئتان بالخوف من الوباء .. مثقلتان بالديون و بارتفاع الأسعار .
سنتان تمضيان و قد ازداد اتتاج الشركة الوطنية للصناعة و المناجم (سنيم) من الحديد الخام و زاد سعره أضعافا، غير ان ذلك لم ينعكس على حياة المواطن . فلم يزدد دخله ، و لم يتحسن وضعه المعيشي .
لماذا ؟
كما أن حجم الانتاج الكبير المستخرج يوميا من الذهب عن طريق التنقيب السطحي و بطرق بدائية لخير دليل على نهب شركة كينروس تازيازت لثروة البلد؛ لذا فإن تأميمها لا يعد إخلالا بالمواثيق و الاتفاقيات ، و لن يخسر البلد أي معركة قانونية إن حصلت .
سنتان تنقضيان و قد طغت فيهما الدعاية على الإنجاز، و اتضح أن تضخم الأمل زائدة دودية تم استئصالها .
و كانت جحافل المرتزقة من الطامحين للوصول إلى المكاسب و المناصب تتحور مثلما يتحور فيروس كورونا .. فيتم تدويرها بكل بساطة في تحد صارخ لإرادة الشعب .
لقد صعب التفريق بين الطمع و الطموح خلال هاتين السنتين .
صار الطمع طموحا مشروعا مهما كانت أساليبه،
و صار الطموح يمر عبر الطمع و لو برهة .
سنتان تختزلان في الثنايا ضروبا من التنكر لولي النعمة السابق لم يسبق لها مثيل، و دروبا من التملق لم يسلكها من قبل حليل .
لقد ازداد المترفون على حساب الشعب ترفا، و ازداد المحرومون من مال الشعب حرمانا، بسبب السياسات الاقتصادية المجحفة (الليبرالية المطلقة) و تفشي الفساد بين مجموعة من النافذين كان قدرنا أن تجثم في المكان منذ الاستقلال إلى اليوم ، ذلك أن المحسوبية والقبلية هما ديدن أي نظام يحكم البلاد .
أنهيت الاستماع للمقابلة مرتين، و هممت بالخروج أفتش عن معالم التغيير للأفضل و التي تحدث عنها السيد الرئيس .. أبحث عن أي إنجاز يذكر ..!
خرجت من البيت في حي السيف الواقع في الجزء الشمالي من مدينة كيفة مساء إلى سوق البلدية بقلب المدينة ضعيف النبض؛ لشح المياه و غلاء المعيشة و ضعف القوة الشرائية ؛ حيث وراقة صاحبي ..
في طريقي كنت أمعن النظر جيدا في المباني و لا أراها تغيرت، و إلى الشارع فأراه غص بالأوساخ كما لم يكن من قبل .
و في طريقي مررت بدار آل الشيخ الغزواني العامرة؛ فإذا هي هي .. شرق مدرسة كوميز العتيقة .
لم يتغير شيء، وذلك مما يحسب للسيد الرئيس .
مررت بصبية أرغمتهم الظروف على العزوف عن كراسي الدراسة لتجعلهم من معيلي الأسر في سن مبكرة جدا جدا .. و بنساء كادحات ماجدات لم يسمعن عن "التضامن" و لا عن "التآزر" إلا ما يصنعنه مجتمعات من كسكس ثريد أو ما يبعن من متاع تليد
و رأيت وجوها أعرفها .. تختبئ وراء تجاعيد المعاناة مثلي .. طمست الوعود و الأماني بهاءها و نضارها "و اشتعل الرأس شيبا".
وصلت صديقي الوفي لوراقته و صحبه و عهده .
و جلسنا مع غيرنا
"و ضحكنا ضحك طفلين معا"
و عدنا إلى البيت من نفس الطريق
آمنين
بنفس الروتين
مثلما كنا نفعل منذ سنين
و الحمد لله رب العالمين .