المشهد المربك..وقرع الاحتمالات / سيد الأمين باب

بعد أن تسلم فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني السلطة في البلاد وأثناء حراك وتموضع الفاعلين السياسيين المنافقين منهم وغير المنافقين ،ومحاولة كل منهم حجز مقعد في مقدمة السفينة  السياسية التي أصبحت جاهزة للإبحار ، هممت بكتابة مقال رأيته مناسبا في تلك اللحظة ، واخترت له العنوان التالي :" ولد الغزواني من صمت القبور إلى ضجيج القصور" وبينما أنا أعد نفسي للكتابة بعد انقطاع طويل وأتحين فرصة فراغ قادم لأفرغ محتوى ما أريد قوله تحت هذا العنوان ، إذ اطلعت على أن هذا الحراك وتلك الأنشطة التي واكبت تسلم السلطة وعقبته لم يكن للرجل فيها أثر ولم تؤثر هذا التحول الذي حصل في مراكز القرار على طبيعته الهادئة إذ لم نلاحظ طيلة السنة الأولى من حكم الرجل أكثر من خرجة واحدة تقريبا ، حتى إنه خالف عادة أسلافه فترك خطاب المناسبات الدينية ...بمعني أن الجعجعة التي نسمع منذ تسلم فخامته للسلطة ليس له منها غير صوت خفيف للمهر الفوكاني.. أما بقية الأوتار فتحركها أيادي الطمع بأظافر من جلد يابس همها الوحيد هو استغلال المساحة الفارغة من اهتمام فخامته بالسلطة وحجز مقعد اللاعب الأكبر في توجيه إرادة الرئيس ولو فيما يخالف طموحاته أصلا ، بتلميع الوهم ،وحبك الحجة .

تبدي لي بعد ذلك أنه ليس من الضروري أن أكتب المقال ، فليس من عادتي أن أكتب دون مبرر واضح كمن ينافس  بكثرة مقالاته ويريد لفت الانتباه الدائم إليه ، كلما غاب مقال له عن صفحات المواقع الأمامية ، يخشي النسيان فيبادر بمقال جديد  ، يصطنع المواضيع للكتابة من عدم  ـ لست من هؤلاء ولا من أولائك الذين يصنعون لأنفسهم منابرا للتذكير بهم ، وبولائهم ـ فلقد تبدى لي أن فخامة الرئيس مازال كما كان ...وأن لجبة المنافقين المتنافسين على قصعة "الوظيفة" الخالية من أي مسحة صوفية ليست جديرة بأن يكتب حولها ، ولا أن تلفت نظرا .

إنما الملفت للنظر حقا ، هو غياب الفعل السياسي التنموي المقنع ، وغياب إرادة التدخل لمعالجة الأوضاع المتفاقمة في البلد ، فكيف يرضي فخامته بالصمت المطبق عن تلاعب الموريدين وكبار التجار بأسعار المواد الغذائية . اجتمع بالموريدين فسمعنا جعجعة ولم نر طحينا ، أمعنى هذا أن الاجتماع كان مجرد ذر للرماد في العيون؟ ، لماذا لا يتخذ فخامته قرارا بنزع التعريفة الجمركية عن المواد الضرورية؟ ،لقد قبلنا بأن ارتفاع الأسعار يعود إلى الأسواق العالمية ، وليس من جشع تجارنا ، لكن هل سنتقبل أن جهات أجنبية ـ كما قال الدكتور الموقر! ـ ستمنع رئيسا من اتخاذ قرار بإلغاء التعريفة الجمركية عن المواد التي تدخل بلاده خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بدعم للمواد الغذائية الضرورية ؟ هل مثل هذا القرار يتأثر فيه الرئيس بالسياسة الخارجية؟ .

إذا كانت الإجابة طبعا لا ،فلماذا لا يصدر فخامته قرارا عاجلا بإلغاء أو خفض الضريبة على المواد الغذائية الضرورية ؟ ليتمكن التجار من بيعها بأسعار مخفضة إن لم تكن في ... فلتكن قريبة من المقدرة الشرائية لمساكين البلد الذين يشكلون نسبة 95% من السكان . الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لما جاء إلى السلطة فوجد أسعار وقود السيارات مرتفعا، قام بدعم هذه المادة الضرورية نسبيا طيلة 6 سنوات تقريبا على حساب الدولة  ، فلماذا يا فخامة الرئيس لا تدعم زيت الطهي ، والأرز ، والسكر ، والقمح  والغاز . وغيرها من المواد الضرورية جدا إلى حين، حتى لا تهلك  شعبيتك من الجوع إثر ارتفاع الأسعار ؟ هذه الخمس الواجبة لا تحتمل معالجتها التأجيل .

ففي الوقت الذي يريد الفقراء تخفيض أسعار المواد الغذائية ولو بدعمها على حساب الدولة ، يطلع علينا الناطق باسم الحكومة بشرح فكرة قرار تغيير بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر!! ، أي تلاعب هذا ؟ بمصير شعب ضعيف ، في الوقت الذي تخشي الناس المجاعة ، ويريد فيه  الشعب المسكين لقمة العيش تنشغل الحكومة في الرفاهية ، مبددة أموالا طائلة في تغيير غير لازم ولا ضروري للأوراق !! .

فيما انشغلت إرادتكم سيادة الرئيس عن هذه المسألة الهامة جدا ؟ أنا جد متأكد من أنك لن تكون أسوء من محمد ولد عبد العزيز لأن هذا الأخير لم يكن سيئا ، لكن خشيتي في أن تكون الارادة مختلفة ، أم أن الإرادة تحتاج إلى محفز؟ قد حصل عليه ولد عبد العزيز ولم تحصل عليه .

بالفعل لقد وجد ولد العبد العزيز في المعارضة الشرسة خير حافز على الإصلاح ، وأنتم يا فخامة الرئيس تستثمرون امتصاص المعارضة وغيابها عن المشهد على أنه عمل جيد أحرزتموه ، والمعارضة بين الفينة والأخرى تحاول تأكيد ذلك لكم ، فعندما يقول أحدهم للمعارضة الحالية التى لم تتشكل بعد  ما مضمونه :"يخوتي أحمدُ ملان أل عندكم قيادة مصنتَ للمعارضة وكابلة تتفاهم معاه من اجل استقرار البلد !!" هذا في الوقت الذي يكاد فقراء البلد يموتون جوعا ، يتجلى مدى حجم الخيانة الكبير الذي وقعت فيه معارضة الأمس ويتضح تدليسها ، ونفاقها للنظام الحالي أي لكم يا فخامة الرئيس ،فهل ستنام قرير البال مرتاحا لما يقولون؟! .

 إنهم يخدعونك ، فكيف يسكت هؤلاء الذين عرفوا ساحات الكبيرة وخبروا التظاهر من أجل المواطن ؟!! يتظاهروا لأبسط خلل واليوم يطبلون ويمدحون جنابكم وحال الشعب يرثي له ، كيف كيف تصدق الخونة وتطمئن إلى إفكهم الذي يأفكون ؟!!.  صدقوا أو لا تصدقوا : لقد جرب هؤلاء طريقة التظاهر لإسقاط النظام ولم يفلحوا ، والآن يجربون طريقة أخرى ربما تكون برأيهم أكثر حكمة وأقل ضررا ، وهي الطريقة التي ستمكنهم من إسقاط النظام في الوقت الذي تخدم مواقعهم فيه ـ عند انهياره ـ حجة المنافحة عنه كأكبر مسؤول عن ذلك ؟!! .

إن غياب المعارضة الحقيقية في البلدان الديمقراطية يعتبر دليلا على أن البلاد تعيش اختلالات كبيرة قد تنفجر في أي لحظة لتطفو على السطح . لهذا فغياب المعارضة عن المشهد السياسي ليس أمرا مريحا ، بقدر ما هو أكثر من محرج ، فمعارضة الأمس ـ كما أسلفنا ـ  خفتت أصواتها ولم تعد تجد لها أثرا أو تسمع لها صوتا راضية بالجمود : إما لانتظار حجز مقاعد في السلطة التنفيذية يأملون حصولها بفعل الانفتاح الكبير على النظام ، وإما بسبب الخوف من عودة الأسد الجريح الذي لم يتم بعد الإجهاز عليه ، وإما بسبب الخجل . فقد أحرقت المعارضة كل مراكبها أيام حكم ولد عبد العزيز ولم تبقي لها على قارب واحد للإبحار في المعارضة ، ذهبت بعيدا في المعارضة حتى إذا عارضت من جديد قيل هؤلاء تعودوا اللعب هكذا .

أعني أن العامل المشترك الذي جمع كل أطياف المعارضة المتناقضة في صف واحد ضمن هذا النظام لا يزال حاضرا ومستمرا رغم غياب مصدره الذي يغذيه  . إنه حصاد خيبة الأمل  المخجلة وهي بالفعل النتيجة الحتمية لمعارضة شخص الرئيس ، وبتغيير الرئيس تنتهي المعارضة كما حصل رغم وجود ما يستدعي النهوض والتعبير، فالأوضاع المعيشية الآن هي أسوء بكثير من حالها أيام حراك المعارضة ضد ولد عبد العزيز ، لن يخدعوك يجب أن تعلم بذلك فأغلب من حولك يعترف به في مجالسه الخاصة .

صدقوا أو لا تصدقوا : لقد جربت معارضة ولد عبد العزيز طريقة التظاهر لإسقاط النظام ولم تفلح ، والآن هاهي تجرب طريقة أخرى ( المهادنة والموالات ) ربما تكون برأيهم أكثر حكمة لقلب النظام وأقل ضررا ، وهي الطريقة التي ستمكنهم من إسقاط النظام في الوقت الذي تخدم مواقعهم فيه ـ عند انهياره ـ حجة المنافحة عنه كأكبر مسؤول عن ذلك ؟!! .

إن المعارضة التي تهدف إلى تحقيق حزمة من المصالح الشخصية ليست جديرة بالثقة فغياب أصواتها المناهضة للأوضاع المزرية ليس ظاهرة صحية ،ولا يعني أن الدولة على ما يرام ، ولذلك فالتعويل على هدوء الساحة السياسية  ، من صوت معارض حتى ولو كان في وسائل التواصل الاجتماعي بقوة القانون(قانون حماية الرموز) ليس حلا ، بل تعقيدا للأوضاع وقلبا للنظام من حيث لا يدري أهله ، إنه طموح وتخطيط مجموعة لا تعيش ولا تزدهر إلا في الأوضاع الاستثنائية ،  وإن عدم الإسراع في معالجة الأوضاع المتردية بسبب غياب أو تغييب أي صوت ... يصدح بالحق   ليس من الحكمة في شيء. فيكفي أن النظام يسع الجميع، وأن رأس النظام لا يسعى في العادة إلى خلق الأعداء السياسيين ، ولا يقضي عليهم بقوة القانون وقهر السجون ، بل بالتحايل ....أحيانا وبتقديم بعض الممكن في أقرب  وقت  .

يمكن بالفعل نسيان العداء الخفي في الموقف المحير الحالي لمعارضة الأمس (الوطنية) ، وإعطائهم بعض ما يريدون، لكن نسيان شعب بأكمله تحت وطأة ارتفاع الأسعار مع ضعف القدرة الشرائية أصلا ، وقتل الأمل في تحقيق معالجة جذرية لمعاناة فقراء البلد ، ليس بالأمر الذي يمر ويمضي حتى لو مضى نظام ومن بعده نظام ومن بعد النظام نظام .

بالفعل إن بقاء معايير التعيين على حالها : المال ، والجاه ، والمحسوبية . التدوير ثم التدوير ثم التدوير ، وترك 20%  فقط من المناصب للوجوه الجديدة ليس أمرا مشجعا وإنما يدل على استحكام سياسة أصحاب المصالح الضيقة والشخصية ، إنه تبرير غير مقنع بالمرة وأظن أن العشرين غير الواجبة هذه على قلتها لن تكون كما قيل ، لأن السياق لا يشي بذلك ، فمن قال إن جميع الوجوه يجب تغييرها ؟ فإن كانت كل هذه 80% رموز فساد فهي متفاوتة في الفساد ، لكن التدوير المحذر منه والذي يدل على الاستمرار في الفساد هو إعادة الثقة في  شخصيات مفسدة معروفة لدى الجميع بالفساد ونهب المال العام .

أما رميزات الفساد الصغيرة فلا بأس في تعيينها وإعادة الثقة فيها مع الانتباه لها حتى لا تصبح الرمزة كبيرة بين عشية وضحاها ، فمن خدع مرة يستطيع أن يخدع مرًات أخرى ، وإن المحاججة عن 80% كلها ، تحمل في طياتها احتمال أن تكون النسبة المتبقية للوجوه الجديدة هي مجرد امتداد للنسبة الأكبر، وجوه جديدة لكنها من أبناء كبار المسؤولين  .

سيدي الرئيس إذا لم تستطع الوصول إلى ما تريد من إصلاح كما هو واضح وبين ، سواء كنت معذورا فيه أم مدانا به ، فيحب أن تترك أثرا طيبا بعدك في هذه الحقبة ، وخير ما ستترك : الانحياز الفعلي ـ لا الوهمي الذي تقوم به وكالة تآزر حاليا ـ للفقراء والمساكين المهمشين والمقصيين الذين يعيشون على هامش المجتمع ، وخير طريق إلى ذلك هو خلق إطار أوسياسة لإشراك حملة الشهادات والموظفين العاديين من أبناء الفقراء في وظائف الدولة، وإن أردت الأمر لن تجد دونه صعوبة تذكر . فبهذه الطريقة يبقي لك ذكر طيب في المجتمع وسنة حسنة لك أجرها وأجر من عمل بها من الأخلاف إلى يوم الدين .

1. أغسطس 2021 - 22:54

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا